فإن الأزمة المالية الجديدة في أيلول /2008/ هي بدون شك قد غيرت أيضاً من نظرة العالم إلى الولايات المتحدة, ليس هذا فحسب وإنما ستغير وعلى نحو جوهري أيضاً من الطريقة التي عمل بها النظام العالمي.
ولذا فإن الاحتمال الأرجح هو أن ينظر المؤرخون لتلك الأزمة المالية باعتبارها نقطة فاصلة في تاريخ تطور التفاعلات العالمية, بمعنى كونها تؤرخ لنهاية حقبة هيمنت عليها فلسفة حاكمة وبداية أخرى بديلة نحو فلسفة مغايرة, غير أن السؤال هنا:
هل يمكن أن يقود هذا التحول الفلسفي الحاكم لإدارة العلاقات الدولية وتحديداً النظام المالي العالمي, لحدوث تحول مماثل في ميزان القوى المحدد له..?
فقد عكست الأزمتان معاً حالة الانكشاف التي تعاني منها الإدارة الأمريكية في قيادتها العالمية, وتكلفتها السلبية المتزايدة والتي باتت تتجاوز الإطار الأمريكي الداخلي إلى غيره من الأطر الجيوسياسية العالمية الأوسع نطاقاً.
إذ عرت تداعيات الأزمة الأولى مشروع الهيمنة الأمريكية من أبعاده الأخلاقية, بعدما أظهرت استحالة تنفيذه على أرض الواقع وإعمال مقومات التفرد الأمريكي على النظام العالمي من خلال اجبار الآخرين طوعاً أو قسراً للانصياع لتلك الهيمنة, بعدما بات من الواضح أزمة الفجوة بين حيازة مقومات القوة الشاملة والقدرة الموضعية على توظيفها لتحقيق مشروع الهيمنة.
وبهذا تداعت على أرضية تلك الأزمة الصورة النمطية الأمريكية التي علقت في الأذهان وكانت توصف دوماً )بالحلم الأمريكي( وبات كل من الداخل الأمريكي والخارج العالمي ينظر إلى إدارة بوش التي دمرت بسياستها الرصيد والمخزون الأخلاقي السياسي للولايات المتحدة.
في الأزمة الثانية, دمرت تلك الإدارة الحمقاء ماتبقى من رصيد مالي اقتصادي للولايات المتحدة, وقدرتها الفعلية على الادعاء بقيادتها لنموذج رأسمالي -ليبرالي في مرحلة تطوره الحالية.
هذا النموذج الذي شاع وترسخ في التعامل الاقتصادي العالمي ليس بسبب وجود مؤسسات مالية عالمية تدعو إليه وتلزم الآخرين بمقوماته بوصفها الوحيدة للعلاج من كافة المشكلات الاقتصادية وإنما أيضاً بفعل العولمة الحالية.
ومن ثم فإن المشهد التاريخي سوف يسجل لإدارة بوش كونها ليست الإدارة الأسوأ في قائمة الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض فحسب, بل وأيضاً كونها التي قادت لانهيار الصنم الرأسمالي في فلسفة الليبرالية الجديدة. إذ سوف يترك الرئيس بوش للرئيس الجديد عبئاً وثقلاً كبيرين يفرضان معاً تحديات كبيرة في كيفية الحفاظ على ماتبقى من قوة وهيمنة أمريكية داخل النظام العالمي.
بالإضافة إلى تزعزع الإيمان المطلق بالليبرالية وقيمها الجديدة, وقدرتها التلقائية على قيادة التطور والتنمية الاقتصادية, في ظل نظام اقتصادي فقد مصداقيته, وبات عرضة للنقد والمطالبة بالتغيير.
من خلال ماتقدم نجد أننا أمام نزعة امبراطورية استنفذت كامل قواها الذاتية بشكل أسرع مما كان متوقعاً وذلك بفعل غطرسة القوة التي مارستها إدارة بوش الحمقاء في إدارة الشأن العالمي.
وبدأ منحنى هبوطها الاضطراري يفرض تحدياته عليها, وهبوط منحى الدفع الامبراطوري لايعني بالضرورة قرب انهيار الدولة الأمريكية كما يظن بعض المتفائلين, وإنما يحمل في طياته بداية مؤشر السقوط الذي سيأخذ مدى زمنياً طويلاً حتى تتكشف أبعاده الحقيقية.