وهي مسألة الاتصال بين المبدع والقارئ .فقد درس هذه المسألة بتوسع وأجاب على سؤال : كيف تصبح الصورة الفنية التي أبدعها الشاعر ملكاً للقارئ ?!
أي إننا حين نقرأ - مثلاً وصفاً لحجرة , نتوقف عن القراءة لنتذكر حجرتنا أي إن قراءة المكان في الأدب تجعلنا نعاود تذكر بيت الطفولة منطلقاً من اعتبار أن بيت الطفولة هو جذر المكان ..
اتسمت أفكاره الجمالية بالنضج والثورية معاً, فقد انصرف باشلار حين كان فيلسوفاً شاباً إلى دراسة المسائل التي تثيرها طبيعة المعرفة العلمية , خاصة في مجال الفيزياء , فقد عرف واشتهر في البداية كمتخصص في فلسفة العلوم , أقام شهرته في هذا المجال بثلاثة عشر كتاباً , جمعت بين الكفاءة العلمية والنفاذ الفلسفي , كان جهده كله , كأستاذ جامعي منصرفاً إلى النقد الفلسفي للفكر العلمي وإلى رؤية عقلية ذات طابع متمرد ,لهذا تدهشنا جرأة عناوين كتبه مثل ( التحليل النفسي للنار) ثم كتاب( المساء والأحلام) و( الهواء والاسترخاء) و( الأرض وتهويمات الإرادة ) ( الأرض وحلم الراحة ) ومن هذه الكتب تم انتقاد على ما يبدو المقالات الست التي قامت بترجمتها سلام عيد وجمعتها في هذا الكتاب . القارىء العادي أو غير المطلع قد يقع للوهلة الأولى بحيرة بالغة إزاء العناوين الغريبة التي تقع عليها عينه وذلك كون أن الكتاب خلا من أي مقدمة ضرورية ومفترضة وتعريفية بالفيلسوف باشلار.
ازهار نيلوفر...
( أزهار النيلوفر أو مفاجآت فجر صيفي) قد يبدو عنوان كهذا لائقاً بلوحة لفنان انطباعي أكثر من أن يكون عنواناً لمقالة فلسفية . لكن الدهشة الممتعة ستكون بانتظار القارئ حين يعلم أن باشلار قام بعملية تشريح جمالية فلسفية لزهرة نيلوفر بيضاء في لوحة لكلودمونية مقدماً بذلك نصاً فلسفياً مستحضراً لرمزية النيلوفر لدى أكثر من شاعر :
( إن مالارميه قد اتخذ النيلوفر الأبيض رمزاً لامرأة اسمها ليدا كان يطاردها عشقاً , وعندما يأتي المساء تذهب الزهرة الفتية لتمضي الليل تحت الموجة , ألا يروى أن سويقتها ندعوها , إذ تنكمش حتى قاع الطمي المظلم ? وهكذا في كل فجر وبعد نوم جيد في ليلة صيف فإن زهرة النيلوفرتولد ثانية مع الضوء..). بدراية تامة يدخلنا باشلار في ما يسميه ( كيمياء الضغينة وكيمياء الألفة) ويبرر الاستعارات الأدبية مثل (الذئب , الأُفعى, الكلب) و تنكشف هذه الحيوانات كلها كاستعارات سيكولوجية للعنف للقسوة, لعدوان , مثلاً إنها تقابل سرعة الهجوم .
وضمن مقالة : ( عقدة خارون) يقدم لنا نصاً حول الموت والماء وارتباط الماء بالولادة والموت منطلقاً من كون الماء رمزاً أمومياً كذلك الشجرة متفقاً بذلك مع المحلل النفسي كارل يونغ حيث ينبش لنا بجرأة أن رغبة الإنسان هي أن يكون الموت وضمته الباردة الحضن الأمومي تماماً كما البحر الذي على الرغم من أنه يبتلع الشمس , يلدها ثانية في أعماقه , أبداً لم تستطع الحياة أن تؤمن بالموت).
ينطلق باشلار من الشخصية الميثولوجية الاغريقية ( خارون) ملاح الأموات الذي مهمته نقل أرواح الموتى على زورقه إلى عالم الموت مقابل قطعة نقدية تدعى ( الأوبول) ويقدم تحليلاً ودراسة لما نسميه الانتحار الأدبي , أي نوع الموت الذي يختاره الروائي لبطله وتأثيره على القراء حيث يمكن أن يلجأ بعضهم إلى تقليد الأدب : (يوشك الروائي أن يرغب في أن تشارك المعمورة كلها في انتحار بطله, إن الانتحار الأدبي قابل جداً لأنه يمنحنا خيال الموت , إنه ينظم صور الموت).
وعبر الاستعانة بصور الشعراء وأشعارهم قدم باشلار فلسفة تكشف سيكولوجية البشرية عموماً ولأن الشاعر يتنزه في حقول طفولته الأبدية غير راغب في نسيان أي شيء.
فالشعراء قادرون بتمكن على اختراع الصور الكبيرة التي تكشف حميمية العالم والطفولة لدى باشلار هي ( بئر) البئر هو نمط عريق وواحد من أخطر صور الروح البشرية.
عموماً باشلار في كل ما كتبه أعاد الاعتبار أو ربما الأصح أن نقول إنه فجر امكانيات وآفاق كلمة أصبحت موضة قديمة على حد تعبيره هي (الروح) إنها كلمة مولودة من تنفسنا .. كلمة منسية مهجورة.
وبالتأكيد إن القرن الواحد والعشرين سيحاول الاجهاز عليها بكبسة زر!
الكتاب : غاستون باشلار/ مقالات
المترجم : سلام عيد
الناشر : وزارة الثقافة - دمشق/2006/