إن لعبة المصالح والايديولوجيات ترسم سوء الطالع, لذا ينبغي بذل أقصى الجهود لتصوّر مخرج آخر للكارثة.
لقد نشأت إسرائيل نتيجة قيام حركتين في القرن التاسع عشر وتصاعدتا إلى أقصاهما في القرن العشرين, القومية التي كانت تعود إليها الصهيونية في البداية (التي كانت تصطبغ بها الصهيونية, وهي مشروع لجزء من اليهود في أوروبا, والاستعمار الأوروبي الذي يرجع إليه السبب في تشكيل مجموعات الرواد الذين استوطنوا فلسطين وجمعوا الطوباوية الاشتراكية مع الحلم المسيحي (بالعودة إلى أرض الميعاد) فكان إعلان بلفور العام 1917 وعداً بتأسيس(وطن قومي لليهود) في فلسطين, وكان أبرز حدث بريطاني في الشرق الأوسط نجحت في توظيفه الإدارة الصهيونية لخدمة أهدافها.
لقد دفعت الحرب العالمية الثانية سريعاً بمئات الآلاف من اليهود إلى الهجرة نحو فلسطين, ما أدى إلى قيام إسرائيل بعد قرار(التقسيم) الذي حصل عام 1947 وأدى إلى اعتراف عالمي شبه تام بها, لكن إسرائيل وعلى الرغم من وجود أقلية عربية ضخمة فيها فهي تدّعي أنها (دولة يهودية) مهمتها جمع أكبر عدد ممكن من اليهود في العالم, وقد ولدت واستمرت من خلال الحروب بسبب صراعها مع الدول العربية والذي دفعها حسّها القومي إلى رفض قاطع لقيامها في فلسطين وخصوصاً بعد عزم إسرائيل طرد السكان العرب الأصليين, إن العبارة التي أسندت لاحقاً إلى غولدا مائير التي تقول: (أرض بلا شعب من أجل شعب بلا أرض) تتناقض كلياً مع الواقع الذي يتضمن بذور الكارثة الحالية.
لقد أدت الحروب الإسرائيلية لعقود الخمسينيات وحتى التسعينيات إلى عسكرة واسعة للحياة الاجتماعية والطاقم السياسي في إسرائيل, وتمتلك إسرائيل أحد أقوى الجيوش في العالم, وهي تظهر في كل نزاع مع جيرانها وكأنه قضية موت أو حياة, بالنسبة لها وتستخدم ذكرى المحرقة وتحاول إسكات انتقادات الجاليات اليهودية في العالم وتستفيد من العلاقات الدولية لدعمها بشكل أكبر.
أما بالنسبة لاتفاقات أوسلو التي أقامت السلطة الفلسطينية وتتصور قيام دولتين فهي لم تؤد إلى الحد منها احتمالات المواجهة, فقد استغلت هذه الاتفاقات لتسريع وتيرة الاستيطان وتعزيز الأمر الواقع وتظهر كأنها تكتيك لاحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي الفلسطينية, إن إدارة السلطة الفلسطينية لم تستثن من صفة دعم الإرهاب إلا في عام 1998 حين ألغيت بنود ميثاقها التي تدعو إلى القضاء على إسرائيل, كما أن إسحق رابين دفع من جهته ثمن حياته جراء رغبته في التفاوض مع الخصم على قدر المساواة وتدل الوقائع بكثافة إلى تطور في المظاهر الاستعمارية لإسرائيل حيث فرضت على مختلف الأراضي التي تسيطر عليها شكلاً من أشكال التفرقة العنصرية: كالتضييق على السكان تحت الاحتلال ومراقبة مصادر دخلهم وتدمير تدريجي لمؤسساتهم وقتل وعنف ضد أعمال المقاومة حتى غير العنيفة.
هل يمكن الحكم إذاً على الأعمال التي يقوم بها الشعب الفلسطيني بالإرهاب دون الأخذ بالحسبان عدم تكافؤ القوى ولئن كانت الهجمات (الانتحارية) التي ميزت الانتفاضة الثانية غير مبررة, فإننا نشجب وبشدة الإرهاب الجماعي الذي تقوم به إسرائيل بوسائل متطورة ضد الفلسطينيين, إن الشعب الفلسطيني اليوم هو واقع لا يمكن اختزاله فهو منقسم بين أوضاعه القانونية والمصالح المادية لمكوناته الثلاثة, فهناك عرب 1948 (أو عرب إسرائيل) ولهم حق الانتخاب, ويتمتعون بجزء من حقوقهم المدنية, لكنهم اجتماعياً ورمزياً يطبق ضدهم التمييز, وسكان غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية, ويخضعون لأشكال مختلفة من النفي والاحتلال والمراقبة. وأخيراً لاجئو المخيمات في الشرق الأوسط والشتات. ومن الملاحظ أن الفلسطينيين نجحوا تقريباً حتى الآن في الحد من صراعاتهم الداخلية, ويشهد على ذلك الاتفاق الموقع مؤخراً بين حركة المقاومة الإسلامية حماس والسلطة الفلسطينية على قاعدة (وثيقة الأسرى).
يشكل الفلسطينيون بالتأكيد جزءاً من (العالم العربي) لذا فإنهم يتوقعون منه أولاً التضامن المادي والسياسي. يبدو أن الوضع ينحدر نحو الأسوأ, ومرد ذلك أن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يتجه الآن نحو نزاع يتسع ليشمل جوانب غامضة مع تصاعد حدة العنف وتقليص سيطرة الفاعلين الأساسيين وهما: أميركا وحلفاؤها من جهة, والدول المعادية لها و (الحركات الإسلامية) من جهة أخرى, لذا ينبغي إيجاد (حل عاجل) للقضية الفلسطينية لنزع فتيل (صراع الحضارات) المعلن.