ومثلما كان هناك فشل استخباراتي إسرائىلي في الكشف عن الاستعدادات السورية والمصرية,أو التنبؤ بها, أىضا كان هناك فشل استخباراتي إسرائيلي في قراءة قوة حزب الله وقدرته على المبادرة والمناورة,ما اضطر حكومة أولمرت تحت وطأة الضغط والاحتقان الداخلي,إلى تشكيل لجنة تحقيق في مجريات الحرب على لبنان,تماما كما حدث بعيد حرب تشرين حيث شكلت لجنة حكومية آنذاك برئاسة القاضي شمعون أغرانات.
وبناء على النتائج الأولية لتحقيقات تلك اللجنة,التي ظلت طي الكتمان,اضطرت رئىسة الوزراء الإسرائيلية في حينه غولدا مائير إلى تقديم استقالة حكومتها,لتنسحب بعد ذلك وبشكل طوعي من المشهد السياسي الإسرائيلي,فقط وقبل فترة وجيزة قررت وزارة الحرب الإسرائىلية فتح هذه الملفات أمام جمهور الباحثين والمهتمين.
فسابقا رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا عدة التماسات طالبت بفتح هذه الملفات,لأن لجنة أغرانات كانت قد أوصت بعدم فتح تلك الملفات قبل انقضاء مدة ثلاثين عاما.
ومن الجدير بالذكر أن نتائج تحقيق اللجنة جمعت في ستة مجلدات تحتوي على 2200صفحة,مرفق بها9000صفحة من محاضر جلسات التحقيق تمت أرشفتها في 43مجلدا,إن أبرز الاستخلاصات التي خرجت بها اللجنة تتلخص بنقطتين أساسيتين,النقطة الأولى الفشل الاستخباراتي الإسرائىلي, حيث شكل على الدوام نجاح العمل الاستخباراتي أحد أبرز نقاط القوة الإسرائيلية في كل حروبها مع العرب,أما في حرب تشرين فقد تم تحطيم تلك القاعدة وهذا ما ألحق ضررا فادحا في مكانة الاستخبارات العسكرية في الكيان الإسرائيلي,أما النقطة الثانية فكشفت عن خلل جوهري في المؤسسة القيادية الإسرائيلية,وهو ما يصفه تقرير لجنة التحقيق بغياب التعريف الواضح لوظيفة وزير الحرب الإسرائىلي ومكانته عند رئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان العامة وهو ما تسبب بقسم من الاخفاقات العسكرية الإسرائيلية وذلك يشبه إلى حد ما الأحاديث التي تدور في الأروقة الإسرائيلية في إطار التحقيق بنتائج الحرب على لبنان.
لكن ما الذي أحدثته استخلاصات لجنة أغرانات في الواقع العسكري والسياسي الإسرائىلي,إنه انقلاب حقيقي,حيث أوصت اللجنة بإعادة صياغة القانون الأساسي للجيش الإسرائيلي,ليصبح محكوما لهيكلة الدولة,وبذلك تكون هذه أول دعوة رسمية إسرائىلية لضرورة أن يخضع الجيش للسلطة المدنية المتمثلة بالحكومة.
بعد مضي خمسة وعشرين عاما على تأسيس إسرائيل بقي فيها الجنرالات يحتكرون قرار الحرب,ويخضعون كل المؤسسات المدنية والعسكرية لسيطرتهم باعتبارهم البناة لإسرائىل,وأن جميع الحروب تخاض على خلفية استكمال بناء الدولة,طبعا هذا لا يعني تراجع إسرائيل عن مفهوم عسكرة المجتمع,بل إعادة صياغته بما يحقق الطموحات التوسعية بأقل الخسائر الممكنة,لذا كان التوجه إلى عدم احتلال المزيد من الأراضي العربية كأولوية وأعطيت الأولوية لتوطيد وترسيم وجود إسرائيل كأمر واقع في الأراضي التي احتلتها بعدوان,1967لذا كان قرار ضم الجولان في العام,1981وكذلك المشاريع الاستيطانية الكبرى في الضفة وغزة ومحيط القدس انطلقت في الثمانينيات,وبلغت ذروتها في التسعينيات وهذا يندرج في إطار الاستراتيجية الجديدة المحكومة بعقدة الخسارة.
وبالتالي تركيز المجهود العسكري باتجاه خلق وقائع جديدة على الأرض تجعل من غير الممكن الانسحاب من تلك الأراضي في إطار أي تسوية.
لذا انقلبت نظرية الأمن الإسرائىلي رأسا على عقب,واختارت حلا لا يحرم إسرائىل من أطماعها التوسعية من جهة,ومن جهة أخرى يخفي وراءه عقدة الخسارة وصعوبة شن حروب واسعة النطاق,وفي إطار تلك الاستراتيجية لجأت إسرائيل إلى حليفتها الولايات المتحدة,التي ألقت بكل ثقلها بعد حرب تشرين, وكذلك بعد حرب لبنان,2006من أجل تحويل الهزيمة العسكرية الإسرائىلية إلى نصر سياسي,فبعد أن وضعت حرب تشرين أوزارها,وسكتت المدافع,انطلقت الدبلوماسية الأمريكية لتؤسس واقعا جديدا,يعيد تشكيل وجه منطقة الشرق الأوسط,ضمن مخطط متكامل ينفذ بشكل متدرج,وعبر وسيلة خطوة خطوة,التي تفتقت عنها ذهنية وزير الخارجية الأمريكية الأشهر هنري كسينجر,حيث تمكنت الدبلوماسية الأمريكية من قلب معادلة الصراع العربي الإسرائىلي عبر إخراج مصر منها.
وبذلك نجحت سياسة خطوة خطوة الكسنجرية بحرمان العرب من المحافظة على الإنجازات العسكرية التي تم تحقيقها في تشرين,وبموجب تلك الانجازات رفضت سورية الحلول الجزئية المعروضة وأصرت على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية والانسحاب الكامل إلى حدود الرابع من حزيران,لكن معادلة كامب ديفيد أجهزت على التضامن العربي,وفجرت صراعات بينية عربية دامية, ما زلنا نعاني من تداعياتها,بمقابل ذلك حققت إسرائيل نصرا سياسيا لا ينسجم ونتائج الحرب,وتمثل بخروج مصر من معادلة الصراع,وكان ذلك خطوة أساسية من وجهة نظر أمريكا على طريق تشكيل معالم الشرق الأوسط الجديد, الذي باتت تتحدث عنه الولايات المتحدة بشكل علني,وتكرر على لسان كونداليزا رايس مرارا في إطار تغطيتها للحرب الإسرائىلية على لبنان,وتبريرها لحصار الشعب الفلسطيني وتشديد الضغوط على سورية يندرج في ذات السياق.
فإذا كانت استخلاصات لجنة أغرانات,تشير بوضوح إلى هزيمة إسرائىل في حرب تشرين,ونتائج التحقيقات الأولية في الحرب على لبنان تؤسس لاعتراف بالهزيمة,إذاً ما الذي يجب أن نستخلصه نحن العرب من دروس,يمكن القول إن الوقائع أثبتت أن إسرائىل غير قادرة على الصمود بوجه معادلة التضامن العربي لو تمت إعادة صياغتها من جديد,ليس بالضرورة على أسس عسكرية فحسب بل سياسية بالدرجة الأولى.
فكم كان واضحا ضعف الخطاب الإسرائيلي,إزاء دعوات العرب مؤخرا في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة,بإعادة ملف السلام إلى أحضان المجتمع الدولي ومجلس الأمن,لذا من الخطأ الشائع الاعتقاد بأن إسرائيل لا تكترث لقرارات الشرعية الدولية,بل هي تخشاها,وتحاول على الدوام خلق وقائع على الأرض تمكنها من الهروب من استحقاقاتها,فها هي الآن ترفض المظلة الدولية لعملية السلام,لأن المظلة البديلة أي الولايات المتحدة الأمريكية,توفر لها قراءات جديدة ومختلفة لقرارات الشرعية الدولية فجميع المبادرات الأمريكية يتم إخراجها في إطار صيغ حمالة أوجه, توفر لإسرائيل مخرجا آمنا من استحقاقات الشرعية الدولية,ويبقى السؤال إذا كان هذا القدر الضئىل من التضامن العربي في إطار الجمعية العامة,أدى الى تعرية النوايا الإسرائيلية, فماذا لو ذهب التضامن العربي إلى نهاياته وحافظ على تماسك الموقف العربي وتطويره,باتجاه الإصرار على عودة ملف الصراع إلى مجلس الأمن,وعدم ترك الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين وحدهم في معادلة الصراع الظالمة.
كاتب فلسطيني