تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


محي الدين بن عربي و حوار الحضارات

آراء
الأربعاء 8/11/2006
محمد قجة

بقى المتوسط مركز الحضارات العالمية منذ فجر التاريخ حتى القرن التاسع عشر, فعلى شواطئه وفي البلاد المحيطة به قامت حضارات الرافدين وبلاد الشام ومصر القديمة وامتدت تلك الحضارات شرقاً نحو العمق الآسيوي لتبلغ الهند, وغرباً حتى المحيط الأطلسي.

وكان المتوسط يشهد قيام تلك الحضارات وسقوطها بين مد وجزر, فتارة يغدو المتوسط بحيرة كنعانية فينيقية وطوراً يصبح بحيرة رومانية, ثم يعود النفوذ الى جنوب المتوسط وشرقه مع المد العربي الإسلامي بعد الفتوحات الكبرى في القرن السابع للميلاد.‏

وكانت دورة الزمان توزع الأدوار بين الشعوب والحضارات ففي حين عرف الألف الثاني والأول قبل لميلاد هيمنة من شرق المتوسط وجنوبه الشرقي, انقلب الأمر الى هيمنة أوربية من شمال المتوسط تمثلت بالإغريق فالرومان والبيزنطيين حتى ظهور الفتوحات الإسلامية,وهي فترة تقارب ألف عام, وتلتها فترة ألف عام أخرى من الهيمنة الحضارية الإسلامية حتى عصر النهضة الأوربية حينما استطاعت الفترة الاستعمارية أن تبسط سلطان الحضارة الأوربية على العالم وليس على المتوسط فحسب, ومايزال هذا السلطان مبسوطاً حتى اليوم.‏

وليس مجال حديثنا الان فترة الفتوحات الإسلامية أو عصر النهضة الاوربية بل ننتقل الى عصر الشيخ محي الدين بن عربي لنتلمس أثره الحضاري في عصره وما تلاه من عصور.‏

يتربع الشيخ محي الدين بن عربي على قمة الهرم الفكري في الحضارة الإسلامية علماً وغزارة تأليف وشمول معارف.‏

كان الاندلس يغلي بالصراعات السياسية ضد القوى الاوربية الآتية من الشمال مهددة الوجود العربي في الأندلس.‏

وفي الوقت نفسه كان الأندلس ساحة للحركات الفكرية العميقة وللحوار الفكري بين التيارات المختلفة وكان خلفاء الموحدين, وبخاصة يعقوب المنصور, على قدر وافر من التسامح وسعة الأفق, ورحابة الثقافة وقد عرف البلاط الموحدي أعلاماً كباراً في الفكر من أمثال ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وسواهم وقد شهد ابن عربي جثمان ابن رشد محمولاً على بعير ومعه رحمل كتبه.‏

غادر ابن عربي اشبيلية في جولة على مدن الأندلس والمغرب فزار قرطبة وبجابة حيث التقى بن الحسن الاشبيلي المعروف بأبي مدين, وهو المتصوف المشهور في التاريخ الإسلامي كما زار تلمسان وتونس, وأقام بعض الوقت في فاس وعاد الى الاندلس فزار بعض مدنه وعاد الى المغرب حيث زار مراكش عاصمة الموحدين وعاودته الأحلام والرؤى, ثم قصد بجاية ثانية, وتطورت رؤاه الى حلم رأى فيه أنه يتزوج بنجوم السماء.‏

كان ابن عربي في الثانية والثلاثين من عمره حينما اتجه الى المشرق لأداء فريضة الحج , ولم يعد من يومها الى الاندلس ولا الى المغرب.‏

وفي القاهرة قال بوحدة الوجود فتألب عليه الفقهاء, وأثاروا العامة, ولكن العادل الأيوبي صاحب مصر كان متسامحاً فلم يلحق أذى بابن عربي .‏

وفي قونية محنة ملكها داراً يسكنها قيمتها مائة ألف درهم , وذات يوم طرق بابه سائل يطلب صدقة فقال له ابن عربي:إنني لا أملك إلا هذه الدار فخذها لك.‏

وفي بغداد اجتمع حوله نفر من المتصوفة, وعاد الى قونية ثم الى ملطة ثم قصد مدينة حلب أيام الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي ولقي عنده ترحيباً حاراً وإكراماً رغم ضغوط الفقهاء المتشددين ومطالبتهم بطرد ابن عربي أو معاقبته.‏

وقد شهد عصر ابن عربي الى جانب الأطماع الأوربية في شقيها الشرقي والغربي , بداية الزحف المغولي الغاشم بقيادة جنكيز خان متدفقاً من الشرق الأقصى بنشر الخراب والدمار في العالم, وبعد حوالي ربع قرن من وفاة ابن عربي كانت الموجة المغولية الثانية بقيادة هولاكو تدك بغداد وتدمر عاصمة الحضارة الإسلامية.‏

في طليعة مؤلفات ابن عربي تأتي الكتب التالية:‏

آ الفتوحات المكية:‏

ب- ) فصوص الحكم) ويعتبره النقاد أعمق كتبه وأكثرها تركيزاً وتلخيصاً لآرائه الصوفية. وهو عرض مكثف لرأي الشيخ ابن عربي في وحدة الوجود وخلاصة معرفته الواسعة في القرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة بمذاهبها الأفلاطونية الحديثة والوراقية والمشائية وإخوان الصفا والأشاعرة والمعتزلة ومن سبقه من المتصوفين.‏

ج - ترجمان الأشواق وشرحه المعروف باسم ذخائر الأعلاق.‏

د- ديوان الشيخ الأكبر.‏

يقوم الفكر الصوفي عند ابن عربي على قواعد بارزة يمكن تلخيصها فيما يلي:‏

1- القول بوحدة الوجود.‏

2-الشك الصوفي والحيرة .‏

3-الزهد الصوفي.‏

4- العلاقة بين الحق والخلق‏

5- الذات الإلهية.‏

6- الله والإنسان.‏

يرى ابن عربي أن كتاباته تصدر عن النور الإلهي. وأن لا شيء يشفي من الحيرة إلا طريق المتصوفة في مجاهدة النفس , فالعقل الفلسفي يقود الى الشك. والطريق المؤدي الى الريمان وراحة النفس هو الاتصال المباشر بالله واستمداد المعرفة منه. وهذه المعرفة هي الاتحاد بالخالق.‏

أثر ابن عربي في الفكر العالمي:‏

ىنقسم الباحثون حول مفكر كما انقسموا حول ابن عربي بين مؤيدين ومعارضين والمؤيدون متحمسون والمعارضون شديدو العداوة ينقلون الرجل الى دائرة الكفر والزندقة.‏

ومن أبرز مؤيديه في التاريخ الإسلامي الخزومي والفيروزابادي والسيوطي والكاشاني والمقري وجلال الدين الرومي والشيرازيان السعدي وحافظ. ومن أبرز معارضيه ابن تيمية وابن اياس والبقاعي وجمال الدين بن الخياط وعلي الفارسي وسواهم.‏

ويعتبر ابن عربي مثالاً للفكر الإنساني الذي ترك بصماته بعيداً عبر الأجيال وعبر القارات وكان فكره مرآة للنقاء الإنساني في سموه وتسامحه ورفعته :يقول في ترجمان الاشواق‏

قالت: عجبت لصب من محاسنه يختال ما بين أزهار وبستان‏

فقلت: لا تعجبي مما تسرين فقد أبصرت نفسك في مرآة إنسان‏

فالانسان عنده جزء من هذا الكون الجميل بأزهاره وبساتينه (117 ترجمان الأشواق)‏

بل إنه ينتقل خطوة أهم فكره الإنساني الواسع الذي يعبر عنه من خلال قوله الزشهر:‏

ألا يا حمامات الأراكلة والبان ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني‏

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى الغزلان ودير الرهبان‏

وبيت الأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن‏

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالدين ديني وإيماني‏

(246 ترجمان الاشواق )‏

وهل هناك اتساع وعمق أكبر من ذلك يستوعب ثقافات عصره ومذاهبه وآراءه فيقول أن قلبه يقبلها جميعاً.‏

بل يمضي ليؤكد ذلك في قوله:‏

لاأبالي شرق الوجد بنا حيث ماكانت به أو غربا‏

كلما قلت: ألا , قالوا: ما وإذا ماقلت هل قالوا أبى‏

لهف نفسي لهف نفسي لفتى كلما غنى حمام غيبا‏

وإذا نحن حاولنا تتبع الأثر الذي تركه الشيخ محي الدين بن عربي في الفكر الانساني فذلك بحاجة الى جهد أكبر من الماح الآن ونكتفي ببعض الامثلة:‏

1- يرى المستشرق الاسباني خوان ريبييرا أن محي الدين بن عربي قد أثر بشكل واضح في فلسفة رايموند لوليو. الذي يتصفح كتابات لوليو يجده يتكئ في كثير من الاشياء على الشيخ محي الدين.‏

175 ذخائر الاعلاق تحقيق الشنفري .1995‏

2- يرى المستشرق الاسباني آسين بلاثيوس أن ابن عربي قد ترك أثراِ كبيراً في كتابات دانتي في كتابه الكوميديا الإلهية ويتابعه في ذلك كثيرون وقد أفردنا جدولاً مفصلاً لهذا التأثير وبخاصة في كتاب الفتوحات المكية وكتاب رحلة الى مملكة الله.‏

3- يرى المستشرق الياباني ايزوتسو أن التاوية وتطورها قد تأثرت بفكر ابن عربي في المجالات الفلسفية والصوفية والمعرفية والتوحد المطلق والادراة. ص 18 ذخائر الاعلاق.‏

4- تأثر سبينوزا بموضوع وحدة الوجود عند أبن رشد وقد أوضح د. ابراهيم مدكور تفاصيل وجزئيات دقيقة مقارنة بين ابن عربي وسبينوزا وحدة الوجود بين ابن عربي وسبينوزا القاهرة .1972‏

5- تأثر ليبنتر بفكر ابن عربي ويمكن ملاحظة ذاك بمقارنة بسيطة. محمود قاسم - القاهرة .1972‏

إن الشيخ الاكبر محي الدين بحياته ورحلاته ومؤلفاته يمثل الاطار الحضاري الواسع للبحر المتوسط.‏

فهو قد ولد في مرسية في أقصى غرب المتوسط الاسرة ذات أصل عربي صريح ينتهي الى طيء. وانتهت حياته في أقصى شرق المتوسط في دمشق بعد سيرة حافلة بالرحلات العلمية طاف خلالها كثيراً من مدن العالم الهامة في عصره. وكأنه بهذه الحياة وهذه الرحلات قد ربط شرق المتوسط بغروبه رغم الحروب الطاحنة والخلافات العميقة والاحقاد المتراكمة على مر التاريخ.‏

وينطبق ابن عربي مع رؤية عامة شاملة للإنسان رؤيته تحترم الانسان بغض النظر عن عرقه ولونه ومذهبه والانسان خليفة الله على الارض‏

(وإذ قال ربكم للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة 30‏

وخلافة رتبة كمالية لايحوزها إلا الوجود الانساني كما يقول ابن عربي في فتوحاته وهو لذلك يرفض فكرة مزاج خاص والمزاج الخاص هو الانسان الحي العاقل الذي يفضل بقية الخلق الفتوحات المكية 2/642‏

إنه الانسان الذي يخاطبه ربه قائلاً:‏

(يا أيها الانسان ماغرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك) الانفطار 6-.7‏

فالانسان لدى ابن عربي يجمع العالم في شخصه فالعالم انسان كبير والانسان عالم مختصر الفتوحات 2/.124‏

وانطلاقاً من ذلك كانت فكرة حب الانسان للإنسان لدى ابن عربي تجسيداً لرؤيته ان الانسان مخلوق تولد من تزاوج الروح الكلي والطبيعة الكلية فالروح أبوه والطبيعة أمه الفتوحات 2/.354‏

ويبلغ الافق الانساني سموه الفكري والعرفاني في موضوع وحدة الوجود لدى ابن عربي فهذه القضية هي بحر الوجود الزاخر الذي لا ساحل له وهي من حيث ذاتها الحق وهي من حيث صفاتها وأسمائها الخلق فهي اذا الحق والخلق والاول والآخر والقديم والحديث.‏

وعلى الرغم من وجود هذه العبارة في مصطلحات الصوفية قبل ابن عربي فإن ابن عربي هو الذي أرسى دعائم هذه الفكرة وبلورها وبخاصة في كتابه فصوص الحكم:‏

فالخلق خلق بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقاً بهذا الوجه فادكروا‏

جمع وفرق فإن العين واحدة وهي الكثيرة لاتبقى ولاتذر‏

إن الشيخ الاكبر محي الدين بن عربي ابن مرسية والاندلس والرقاد في دمشق إنما هو تجسيد لرؤية حضارية ربطت جانبي المتوسط في أفق متسامح غني عميق أفق يجب أن يقوم على الفهم المتبادل والاحترام المتبادل لكي تتحقق مقولة الشيخ الاكبر في رؤيته الرفيعة للانسان.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية