من الشمال الى الجنوب تمرّ قوافل مشتاقين عشق.. وتجيء بين الشوق والشوق محطات واستراحات وأسئلة يُسمح فيها للناجح الأول بمقابلة واحدة أو بمشاركة وجدانية، أو بحوارية، أو بأسئلة ملتاعة من النوع الخفيف، لأنّ الأسئلة العشقية التي من النوع الثقيل، يُسمح بها في المقابلات والحصص الدرسية التالية، التي تشرف عليها، وتُحدّدُ منهاهجها ومقرراتها ودروسها وامتحاناتها الفصلية والنهائية (زيزفونة)، وأحياناً تتعثرّ إمكانات العاشق، فتتدخل الأمُّ والقرابات والصداقات الحميمة ذات الخصوصية والتميّز..
(زيزفونة) شجرة دهشة مليئة بأزهار الألق الأنثوي: /خدّان في جبل الهوى تفاحُ وقِوامها الأفراحُ والإعجازُ والإفصاح/
كأنها قصيدة عبق قالها المطر وغاب..
تفلّت /عبدو الشاعر/ من قبضة حبٍّ سالفٍ تالفٍ من كثرة ما فيه من التياع وأسى انتظار، وجاء الى زيزفونة قريبة أبيه، وأمُّها قريبة أمِّه.. لكن ما نفع هذه القرابات والوساطات في المذاكرات العشقية، التي قد يسقط فيها العاشق عند أول سؤال عينين أو الى حصّة إعراب اشتياق أو إملاء عهد من النوع البلديّ..
الأمُّ مدرسةٌ ومؤلفة منهاج ودروس حبٍّ، وعندما قدّمت استقالتها من مزاولة الدروس العشقية الصعبة، ظلّت تحتفظ بأحقيّة الاختبار والإشراف والاستشارات الغرامية، وسمّت نفسها وسمتها جاراتها وسمّاها الجيران والعارفون: (استشارية الحبّ الأولى) في السهل من مبتدئه الى خبره، ومن جملته الأولى الى نقطة الخاتمة.
زيزفونة تعلّمت في مدرسة الأمِّ وزادت على دروسها مادة درسيّة جديدة هي (الهندقةُ) و(الأناقة البكرُ والمتريّثة) تلبس ثوبها بكامل العفوية الأنثوية، دون إنقاص أو زيادة، وتُرتِّب وقفتها وخطواتها ترتيباً رشيقاً وحنوناً..
وحين تخطو بين حصة غرامية وحصة غرامية أخرى لا تنسى أيّ خطوة دون شرح توضيحي، ولا تتهمل حركات قوامها أو سكنات فعل أمر انتظار أو نظرات.
ودرس الكُحل غاية في البساطة والسلاسة، بحيث يظنّ العاشق أنّه ينجح منذ الحصة الأولى، ويحصل على معدّلٍ ممتاز في مذاكرة اللفتات وإشارات كُحل العينين، لكنّه ما إن يبدأ القراءة ومطالعة أولى النظرات، حتى يرتبك، ويأخذه الرجفان وتسرقه حالة الخشية الى دوار الاحتمالات القاسية والمخاوف من الفشل أو إعادة المذاكرة.
امرأة من أناقة عالية، جميعها أنثى، حكيها، صمتها، خطوها، ابتساماتها الموجزة، قوامها، نعاسها، علوّها وأفقها، صباحها وظهيرتها.. كأنّها موزّعة رقّة ومؤلفة حُسنٍ وقاموس أنوثة: يمكن للعاشق أن يعثر على مفردات شغف ومعاني أناقة وشروح دلع لا يعثر عليها إلّا عندها.
هذا ما جعل (عبدو) الذي كان طالباً مبتدئاً في صفوف ابتدائية الحبِّ أستاذاً في فنِّ اللهفة وتدريبات الالتياع والغنائية العاشقة ودرساً بعد درس ومذاكرة بعد مذاكرة تمرّس في فنِّ تدريس الشوق وإلقاء خطب المحبين ولهفة بعد لهفة ازداد ارتقاءً خطب المحبين.. ولهفة بعد لهفة ازداد ارتقاءً وعلوم هوى وحنين حتى سمّته لحظة قبلته عاشقاً ناجحاً في إعداديّة حُبّها، (عبدو الشاعر)..
قبل تلك المذاكرة العجيبة التي نجح فيها لم يكن أكثر من (عبدو) ولد عيسى النبع وأمّه ريحانة بنت سنديان الكبير، الكريم..
النجاح صعبٌ والامتحان النّهائيُّ أشدُّ صعوبةً، لأنّ الأمّ تدخلت، طالبت زيزفونة برفض (عبدو) وقبول غيره:
- (عبدو) قريبنا وحبيبنا، وأبوه من الأقرباء الأعزاء، وأمّه قريبة أمي، وهو حسنُ الهيئة، ويعرف الخير من الشرّ، لكنّه فقير، والفقر عدوُّ المحبين والألفة..
انتبهي جيداً قبل الذهاب معه في متاهة الحاجات..
اسألي مجرّبة ولا تسألي حكيمة:
المرأة الجميلة يذبح جمالها الفقر، ويقتل حلاها الإهمال..
أنا ذقت الفقر وعانيت ويلات الحاجة..
زوجي الأول كان طيّباً، لكنّه كان قليل التدبير، ولا يُحسن السعي وراء الرزق، حتى وجد نفسه ملعوناً بالتعاسة والديون..
- قبلته وأحببته، واخترته شريكاً يقاسمني الحبَّ وهموم الحياة..
- شريك لا يملك إلا الحبَّ!؟؟!
- يكفيني رغيف حبّه عن جميع القمح والرزق والميراث...