وللتاريخ أقول الآتي: لقد كان البعثيون المعول الذي حرك هذه الوحدة في وجدان الناس وزرع وجودها في نفوسهم فقد حفلت تلك المرحلة بأحداث تاريخية كانت بمنظور البعث إنجازات يُفتخر بها اذا ما أخذت بسياقها العام وظروفها التاريخية حيث نجح الوعي النضالي للجماهير في مواجهة الأحلاف الاستعمارية.
تمر اليوم الذكرى الحادية والخمسون لقيام أول وحدة عربية في تاريخنا المعاصر, ففي 22 شباط 1958 تحققت الوحدة بين سورية ومصر وقد كانت تجربة حلوة ومرة, حلاوتها أنها مطلب جماهيري ولأول مرة يدرك حزب البعث العربي الاشتراكي أنه استطاع أن يحقق أول أهدافه السامية وضحى بكل شيء وألغى نفسه كتنظيم سياسي في سورية معتبرا أن أهم أهدافه قد تحققت, أما مرها فكان التآمر عليها وهو الانفصال.
تذكرني هذه الأيام بأيام الخمسينيات, حيث كانت سورية وامتلاك ناصيتها هي الضالة المنشودة لكل الطامعين وهي المعبر الذي لا يعبر إلا منه, والباب الذي لا يكون الولوج إلا منه, فقد احلولكت ليالي النضال, وتكاثرت المؤامرات, وظلت كالطود شامخة حتى إنها واجهت الأحداث بتفجير زلزال الوحدة مع جمهورية مصر العربية, وولدت الجمهورية العربية المتحدة التي جسدت أول وحدة في تاريخ العرب, ومهما طال الزمن وبعدت الشقة بين أول وحدة في عالمنا المعاصر ووقتنا الحالي فإن جماهير أمتنا ستظل تذكر باستمرار جمال عبد الناصر القائد الوحدوي الذي حافظ على عروبة مصر, وزرع الشعور الوحدوي في كافة أرجاء الأمة العربية, وقد ظل الصراع حتى جاءت الساعة المرة حين فاز الأعداء بغنيمة الانفصال الذي سرح جميع الضباط الوحدويين ووضعهم في غياهب السجون, وجاءت ثورة الثامن من آذار لتضع حدا لهذا الظلم, لكن اليد التي امتدت لتقويض الوحدة هي التي حاولت وضع كل العراقيل في طريق ثورة الثامن من آذار.
وما أشبه اليوم بالبارحة وأنتم ترون اليوم أن سورية الأبية محاصرة من البر والبحر, من الشرق والغرب والجنوب بعدو شرس ماكر, وجيران منهم من يتـآمر, ومنهم من يهاود حتى أعز الأصدقاء والمخلصين, لكن سورية اليوم استطاعت أن تثبت أنها الرقم الصعب الذي يحسب له ألف حساب فمن ارتفاع عقيرة بعض الدول باتهام سورية بأنها دولة ترعى الإرهاب, إلى اعتراف ذات الجهات بأن أي حل لمشكلات المنطقة لن يتحقق إلا عبر سورية, ومن أوروبا المطيعة لمخططات أمريكا بعمى تام, إلى موقف أوروبي متميز وواضح سواء على صعيد التعامل مع سورية أم على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية, ومن اتحاد روسي اضمحلت بعض آمالنا فيه, إلى موقف جديد يقف إلى جانب سورية وقضاياها العادلة, وكذلك موقف الصين, وكل هذا ناجم عن أننا لم ننحن لا أمام النسمات ولا الرياح العاتية وظلت ثوابتنا التي لم تتغير منذ عشرات السنين.
ونحن اليوم محبو سلام غير مفرطين بشبر واحد من أرضنا, وعاشقو حرية دون مهادنة أو تساهل, نمد يد السلام والمصداقية لمن يمدها, ونذب عن أرض الوطن مطامع كل طامع, مناصرون لكل القوى الديمقراطية في الوطن والعالم, نقف إلى جانب المقاومة الباسلة ضد العدو المحتل, ونناصر دون هوادة أحباءنا في الأراضي المحتلة الذين يقاومون العدو الباغي, كما نبارك ونؤازر المقاومة الأبية في لبنان الصامد بالرغم من الرياح التي تتقاذفه وتتلاعب ببعض فئاته التي ستندحر طال الزمن أم قصر.
تلك هي ثوابتنا التي حافظنا عليها وعززناها, وتستطيعون اعتبارها كشف حساب لا ندعي أنه يرضي طموحاتنا وطموحاتكم, لكن صدقوني إن الكفاح في ظل هذه الظروف السيئة الضاغطة لهو أشد وطأة وإرهاقا من اقتلاع الصخور العاتية المنغرزة في الجبال الشاهقة, ولكنه قدرنا الذي عليه نصر ومسيرتنا التي بها نعتز.
إن ما يدور اليوم على الساحة العربية يذكرنا بأهمية الوحدة، إن أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ وأرواحهم تنادينا اليوم من قبورها, وإن الدماء التي لم تجف ولن تجف ستبقى شاهدة ومؤكدة على أهمية الوحدة.
وإسرائيل اليوم بشعبها الذي يرفض السلام باستفتاء ديمقراطي عبر عنه هذا الشعب منذ أيام جاء بمن يمثله, وحيث التسابق بين هؤلاء القادمين لمن ينادي بالقتل والدمار أكثر ولمن يرفض السلام ولمن يطالب بتصفية الوجود العربي, إنهم النازيون الجدد...
ولا من حل مع هؤلاء الناس إلا بالمقاومة والطريق واضح المعالم, وهذا الاختيار هو اختيار المرغمين عليه.. وليكن 22 شباط 1958 رمزا ابديا لتاريخ نضال شعبنا, والوحدة قوة وحينما نكون أقوياء تحل أمورنا دون حروب, ودون إراقة دماء, أرجو ممن عاصروا هذه الوحدة أن يتذكروا أهميتها وأن يقفوا في وجه هذه الأصوات الشاذة التي تقف إلى جانب العدو, ووقوفنا معا هو النصر, كما أرجو من الأجيال التي لم تعاصر هذا الحدث أن تدرك أهميته وأن تعود للتاريخ والوحدة أمانة في أعناقهم وأعناق أحفادهم.
نتيجة الأحداث الكثيرة والمؤسفة التي مرت على أمتنا العربية من انفصال الوحدة بين سورية ومصر عام 1961 وحتى الآن, تولد إحساس عام بأن الشعور الوطني والوحدوي لدى أفراد الأمة العربية قد مات, بل إن كثيرا من الكتاب الوحدويين قد تواروا ونشطت الدعوات الانعزالية وتولد إحساس عام بأن شعار الوحدة العربية قد مات, وقد جاءت الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة لتثبت أن هذا الشعور الوحدوي لايزال متوقدا ولو تحت الرماد, وإذا أتيحت له الفرصة فسيعود متألقا وحيويا.
إن تجاوب المواطن العربي في وهران مع الشعب الفلسطيني في غزة لم يكن أقل حماسة من تجاوب المواطن العربي في دمشق والقاهرة والخرطوم وبيروت.