|
أزرق لسورية ..هــل لمفردات تتكرر فـي اللوحة التشكيلية أن تعطـــي العمـــل الفنــــي ملامح هوية؟! ثقافة الأمر الذي منح هذه المفردات الجمالية الكثير من الإيحاءات، والتي جعلتها تخرج عن سياقها التي استكانت التواجد فيه في اعتيادها الطويل، هنا حاول المبدع أن يُزيح الكثير من هذه المفردات من سياقها، ووضعها في سياقات جديدة، وكذلك في صياغات جديدة، و..في الفنون الجميلة جعلها في «تكاوين» جديدة، وصولاً إلى حالة إبداعية قادمة من مفردات محسوسة، ومألوفة، لكن ولكثرة ألفتها صرنا نمر بجوارها دون أن ننتبه لها، و..كل ما عمله الفنان التشكيلي هنا في تعامله الجديد معها هو وضعها في دائرة ضوء إبداعية جديدة.
رنة الروح من هذه المفردات التي ستتكرر في العديد من الأعمال التشكيلية: الكرسي، الجرار، الحذاء، الشجرة، القوارير، و..غير ذلك الكثير من المفردات التي شكلت للعديد من الفنانين السوريين « حوامل» إبداعية، أفضت لمشاهد بصرية شكلت بدورها فرادة في المشهد التشكيلي السوري، بل و..أعطت للعمل الفني ملامح هوية سورية، لاسيما بمد ذلك العمل مجساته باتجاه سورية القديمة بإضافة ملامح تراثية وتاريخية سورية، سواء من أوابد، ومن ملاحم، و..من ألوان قديمة. و..من هذه الملامح، التي شكّلت معالم لهوية سورية، هو هذا الشغف ب»الأزرق» حتى أن هذا اللون أصبغ على معظم التجربة، و..أحياناً بكاملها لبعض الفنانين، ولعلّ أشهر من تولع بالأزرق كل من الفنانين نزار صابور، ومحمد أسعد «سموقان» وفيما بعد الفنانة غادة زغبور.. هذا «الأزرق» في درجته «النيلي» كان السوري الفينيقي قد خصصه للملوك والآلهة، وهذا ما أخذه العالم عن سورية، فكان أن جعل الرومان ثوب العذراء مريم نيلياً مقدساً بناء على المفهوم السوري القديم لمفردات القداسة. «النيلي» الذي كان ذات حين يُزيّن بيوتنا الطينية من داخلها، كان ثمة إصرار على حضور هذا النيلي كخط طويل على ارتفاع المتر ونصف، و..الذي يأتي كمعادل آخر لوجوه تلك القداسة، هذا اللون الذي سنرى ملامحه في الكثير من تفاصيل الأعمال التشكيلية، سواء بكثافة لدرجة العلامة الفارقة كما ذكرنا عند الفنانين السابقين، أو أنه شكّل توقاً في بعض الأعمال، و..إذا أردنا أن نعدد هنا، فسنحصل على عشرات الأسماء التي كان لها شغفها بالأزرق.
هذا «الأزرق» برأي الكثير من الفنانين، لم يوقع اللوحة في التماثل، وأنما ثمة من وجد إنه «ليس من أزرق يشبه الآخر، لا من حيث الصفاء، ولا الشدة، ولا النغمة، و..كأنه أصبح- الأزرق- رنة النحاس في الروح، ذلك أنه لكل روح رنة ما، وهذا الأزرق هو رنة الروح المختلفة والدائمة..» هذا «الأزرق» الذي يشدّنا كعاطفة، ذلك لكثرة الانفعالات التي يُقدمها هذا اللون، فهو يوحي بالمسؤولية في بعض درجاته، و..بالتراخي في بعض درجاته الأخرى، و تارةً يوحي بالعمق والقدامة، و.. طوراً بالتعب، هذا الأزرق الذي هو «لون سورية» حسب وصف صحيفة فرنسية كما قال نزار صابور ذات مرّة، و..كثيراً ما شدّ الفنانين إليه بإيحاءاته المتعددة، و..هو ليس لون البحر - جار الكثير من الفنانين - وحسب، بل هو لون الأسرار، و..ربما الأخير، قد يكون هذا الـ «شيء ما» الذي جذب إليه أكثر من فناني التشكيل، و.. قد يكون كل ما سبق معاً. لون فضّاح في حوارٍ لي مع الفنان التشكيلي نزار صابور، يقول عن حالة الأزرق التي لوّن بها عدة أعمال فنية خلال تجربة امتدت لفترة من الزمن: الأزرق توءمي، وفي الغرب عندما عرضت لوحاتي هناك، ثمة من قال عنه إنه لون سورية، سابقاً كنت أظن لأنني أبن الساحل السوري، وجار البحر، أو لأنني شخص جد عاطفي، ولدي الكثير من الجوانب الغامضة كما يرى الكثيرون، اللون الأزرق عميل كل هذه الأشياء، ولكن قد تكون الصفة الأهم هو «العاطفية» هو لون «فضّاح»، يفضح الأحاسيس، وهو بالنسبة لي كما قال عنه أحد الشعراء، وكان يقصدني: «لديه من أنابيب الأزرق ما يكفي لصباغ سبعة بحار، ودهن سبع سماوات..» كان ببساطة عندي الحاجة الروحية لألون أي سطح بأزرقي الخاص المكّون من عدة نغمات، وأبحرت طويلاً بهذه الحالة اللونية، لكن مع تقدم التجربة أفسحت المجال لأمزجة لونية أخرى، لا أعرف لماذا مع تقدم العمر ثمة ألوان كثيرة تنسحب، مع ذلك ثمة خط ما، بقعة ما، تفضح هذا التعلق بالأزرق، في أي تجربة جديدة.. و..أما عن انعطافته من رسم الغابة إلى الإيغال في الأرض القديمة وأساطيرها، وصولاً إلى أبجدية الأزرق، يقول الفنان سموقان: الغابات التي أرسمها هي بحرية بالأساس وعناصرها أسماك ونباتات وقواقع , والماء يتكون من هذه العناصر كما تتكون التلة والجبل والأفق من أغصان وجذور ونباتات تعرف باللاشعور وتسبح في فضاء الخيال. و..إذا كان لابد من التحدث عن موضوع ما في تجربتي -يُضيف كما ذكر لي مرةً- هي الغابة أو الغابة البحرية و هي أوغاريت و قصة البعل وأبجدية الشكل و..أخيراً البحر أو الأزرق، وكل ما هو مخطط يبدو ملغى في النهاية، لأن اللوحة تنمو بالتدريج ولا يعرف مصيرها النهائي. ثمة فنان آخر كان له شغفه بـ «الأزرق» وإن كان هنا قد اتخذ منحى صوفياً بحتاً، وهو الفنان رازي عبد الله الذي اشتغل على «الرابسودية الزرقاء» والتي حملت عنواناً لأحد معارضه، و..الرابسودية الزرقاء كما يُعرفها: «هي عبارة عن مصطلح بوهيمي، يتحدث عن عبادة الله عن طريق فن اللون الأزرق (فاللون الأزرق يعبر عن الصفاء والنقاء في كل شيء ) وأكثر ما نعبر فيه الأمومة المطلقة أو ما يسمى في السماء المن والسلوى.» والربسودية اتجاه موسيقي غربي، «نشأ في عشرينيات القرن الماضي، حيث يتم عزف المقطوعات باجتماع ثلاثة أنواع موسيقية مختلفة وفي زمن لايتجاوز الست دقائق، وتهدف إلى خلق حالة منتظمة رغم الفوضى الحاصلة نتيجة الاختلاف... والرابسودي تمثل أيضا اتجاهاً فكرياً يسمو إلى العلو، من خلال رؤية الموجودات والمواقف بطريقة أكثر عمقاً وإدراكا لاستخلاص الجوانب الايجابية من أي حدث.» وقد تمّ التعبير عن الرابسودية من خلال الكلمة والموسيقا، فأرد أن يصوغها بشكل مختلف من خلال اللون.. واللون الأزرق تحديداً بدلالته الرمزية لتشكل مجمل اللوحات (ملحمة لونية). وخلالها مزج رازي بين اللونين الأزرق والأبيض في لوحاته، فاللون الأبيض هو اللوحة التي يضع عليها اللون الأزرق، وبرأيه اللون الأبيض يرمز للحيادية وإضاءة نورانية، وهو يتكامل مع الصفاء والنقاء الموجود باللون alraee67@gmail.com">الأزرق. alraee67@gmail.com
|