* * *
المدينة تدخل أفق الرعب; ولصوص الأبجديات خرجوا إلى الشوارع ,والخوف المتربص فطرة في القلوب ,خلع ثيابه واتخذ الوجوه مسكنا له وجعل من الشوارع امرأة مهجورة يطأها وقت يشاء.
الأصدقاء يتساقطون على مذابح الحروف; وأخبار عذاباتهم تَشِمُ الروح والجسد لترفع نبض القلوب, وتستقر في نسغ الروح وشهوات الدماء.
استباحوا كل شيء: أرواح البيوت وأحلام الأطفال, خلاخيل النساء وأنوثة الوطن, قامات الأشجار وتمرد الرجال.
والغريب في حملتهم الجديدة تركيزهم على اعتقال الكتب ,وهتك حروفها وتمزيق أثوابها الخارجية, لتبقى أوراقها وتفاصيل حروفها مباحةً للعراء.
الأمر الذي جعل أبي, المنتظر اعتقاله, المتربّص على ذاكرة الموت, الخائف على وطن أدمن العويل والبكاء, الحارس لكتبٍ تحمل بذرة الموت في أحشائها, يقول:
- الكتاب امرأة, وهي في عريها الداخلي أجمل, وفي فتنتها الغاوية أبهى.
بينما أمي تصرخ به غاضبة: اهرب قبل أن يأتوا, لن يرحموك!
- لن أذهب قبل أن أطمئن على الكتب , فهي ذاكرتي وتاريخي, هم يعتقلونها, ليقطعوا جذورنا من الامتداد والتجذّر في الأرض.
* * *
بينما أبي مهموم بكتبه, متفكّرا بها, باحثاً عن مأمن لها من لصوص الأبجديات, متخفيّا في النهار, ظاهراً في الليل, متفقّداً المخبأ المؤقت للكتب, ريثما يكون أمّن لها مكانا آمناً,هبط جارنا أرض منزلنا وقال لأبي:
- لا تقلق يمكننا وضع الكتب عندي, فأنا لست ملاحقا وأنا من جماعتهم ولن يفتشوا منزلي.
أمي فرحت بالخيار, وبعينيها حاصرت أبي الجالس على عرش القلق, القابض على جمرة الجحيم, الخائف من كل ما حوله, المتوجس من عرض جارنا المفاجئ.
و لم يكن هناك خيار آخر , لأن إخراج الكتب من المنزل مستحيل بسبب كثرتها وسعار المخبرين المنتشرين في كل الأزقة , يتشمّمون رائحة الخوف ,ويتصيّدون الغزلان المرتبكة تحت عزلة الهجر والحرمان.
* * *
الجار الذي نقل الكتب إلى منزله, لم يستطع النوم.
تسرّب القلق إليه, وغزا الخوف ملامحه, وبدأ الشك يأكل قلبه والندم يشعشع خلايا روحه, والأسئلة تتقاذفه:
ماذا لو تأخروا.. وجاء لصوص الأبجديات وقبضوا على الكتب عندي?
هل أعيد الكتب?
هل?
طرقٌ خفيف على باب المنزل:
- من?
- يحيا الوطن!
لقد جاؤوا إنها كلمة السر من المسؤول عن جماعته الذي كلّفه باستدراج الكتب للتخلص منها.
دخل المسؤول وقال له:
- هل الكتب جاهزة?
- نعم.
- هيا بها إلى التنور.
- التنور!!
- نعم سنحرق الكتب, لكي نتخلص من أفكارهم النتنة.
* * *
حملا الكتب في حلكة الليل, واتجها نحو تنور الظلام.
رميا الكتب في بيت النار, سكبا المازوت على أجسادها, كما تبلّل امرأة بماء الموت.
أشعل أحدهما قشّة الخراب والحقد والجنون, فأطفأتها ريح الحب والحنان.
أشعل قشّة أخرى ممزوجة بالموت, فانفجرت براكين الحب وزلزلت أرض الله, وزمجرت ملائكة الصمت في فلواتها.
سقطت قشة الموت, مطلقةً يد النار في جسد الكلمات , وعريها المباح فاحترق وجه الليل وبكت السماء..
فجأة هبط أبي الذي -لا شكّ- شمّ رائحة احتراق روحه.
نظر في الوجوه بحقد أعمى, وحدّق في كتابه/ جسده الذي تلتهمه نيران الظلام.
حدّق حوله لم يجد ما يطفئ به النيران, فاندفع بجسده محاولا إطفاء النار بصدره ويديه, فأحبته النار وعانقته ككتاب!
وصل لصوص الأبجديات , انتشلوه من النار ككتاب يحترق, والنور يطلّ من بدر وجهه الغاضب, بينما كان الظلام يلفّهم ويأخذهم نحو عمائه الأبله.
أبي تحوّل إلى كتاب طائر: فكرة محلّقة: غيم ممتلئ بمطر..وهم على الأرض يلهثون
أبي يطير وهم في ظلامهم يعمهون..
أبي يطير... يطير...
يطير..