وحصدت في المحافل العربية والدولية فوزاً ثميناً في امتحانات متتالية أحيطت محاضرها بالكتمان، وغُلفت بالصمت لأن طبيعة هذه الدبلوماسية مجافية للضوضاء، يعنيها فقط أن تكسب معركتها في النهاية بأداء هادئ و طول أناة، وصبر لا ينقطع حبله مهما ازداد عليه ثقل الضغوط، ومن باب العرفان للرئيس الراحل حافظ الأسد أن نذكر أنه كان المهندس الأول لهذه الدبلوماسية وناسج خيوطها ورافع بنيانها العريق !
مما رواه لي الصديق الراحل جبران كورية الذي شغل لسنوات مدير المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية، أنه في مرحلة المفاوضات الشاقة التي كان يجريها جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي في تسعينيات القرن الماضي، مع الرئيس الراحل حافظ الأسد حول أفكار عملية السلام في المنطقة، كانت المباحثات تطول أحياناً في الجلسة الواحدة لزمن قياسي، يجرب فيها الدبلوماسي العريق كل مهاراته المدعومة بقوة الولايات المتحدة الأمريكية، لانتزاع تنازل مموه من دمشق يحمله معه إلى تل أبيب في رحلاته المكوكية، ليتباهى به أمام اسحاق رابين كنصر انتزعه من قبضة الأسد، لكنه كان يخرج صفر اليدين لأن تعريف الحق في القاموس الوطني السوري ليس له أكثر من معنى، فإما أن يسترد الحق أو يستمر الصراع ! من وحي ذلك استأذن الصديق الراحل جبران الرئيس الراحل حافظ الأسد، و عرض عليه أن يسرب إلى الصحافة المحلية أو العربية أو الدولية مقاطع من تلك الحوارات الساخنة التي كانت تدور تحت سقف قصر المهاجرين، باعتبارها وثائق تاريخية قلَّ نظيرها في تاريخ التفاوض، فابتسم الرئيس الراحل في وجه جبران وقال له، و ما الغاية من ذلك، قال جبران الغاية أن يعرف شعبنا و العرب و العالم قوة المنطق الذي تتحدث به وصلابتك في الدفاع عن الحق العربي، فقال الرئيس الراحل : لو كنت أبحث عن كسب معركة إعلامية لفعلت ذلك، لكنني أبحث عن كسب معركة وطن وأمة ! ومازلنا على الطريق!
تلك هي المبادئ التي ظلت تحكم إيقاع الدبلوماسية السورية، قبل جنيف اثنين وأثناءه وبعده، وإذا كانت قد أحيطت بالبريق في مونترو وجنيف هذه المرة،فلأن البريق قد سعى إليها وسلط عليها كل الأضواء، فبدا لبعض العالم و كأنه يكتشف صنفاً من الدبلوماسية لم يألفه من قبل، يقوده رجال متمرسون و عنيدون و مستبسلون في الدفاع عن حقوق مواطنيهم، لا تنقصهم الجرأة ولا يخونهم كبرياؤهم ، يعرفون أنهم يواجهون رموز الحرب الكونية على وطنهم، لكنهم أتوا من جبهة صامدة لم تسقط فيها إرادة، ولم تنكسر سارية علم، ولم تتبدد ثقة جندي بإنجاز النصر، ومن أجل ذلك فلقد قالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا، في وضح النهار لا يطلبون ثواباً إلا من شعبهم، ولا يخشون عقاباً من صنّاع الموت والحروب، حتى ولو كانوا برتبة الوزير كيري و إدارته العمياء !