من أهمها انتماؤهما إلى بلدين مختلفين متباعدين ينطقان باللغة الإسبانية، التي تنتشر انتشاراً واسعاً في بلدان أميركا اللاتينية، ولا سيما الأرجنتين التي احتضنت لقاء التعارف الأول على دروب التعاون والصداقة بينهما، وظلت تمنح اسميهما احتفاء ثقافياً مميزاً، وتنشر مؤلفاتهما الأدبية في طبعات متتالية.
ولد نيرودا عام 1904 وأصبح قنصلاً لبلاده تشيلي في غير بلد منذ عام 1927، وقد عين في بوينس أيرس في الأرجنتين عام 1933، حيث تعرف هناك «في بيت بابلو روخاس باث، على فيدريكو غارسيا لوركا»»2» «الشاعر الإسباني الذي كان في زيارة خاصة لها، ونسج معه علاقة صداقة وثيقة»»3».
تحمل كتابات النقاد والمشتغلين بتاريخ الأدب عن العلاقة الأدبية بين هذين الشاعرين العالميين المهمين، إشارات متنوعة إلى توافقهما المبدئي في المواقف من قضايا عصرهما الكبرى، ولا سيما قضية الصراع في الحرب الأهلية الإسبانية الشهيرة في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، فضلاً عن توافقهما حول قضايا الأدب وعلاقته بالمجتمع والحياة.
عرفت صداقتهما بعد لقائهما في الأرجنتين، تطوراً مهماً، في العام 1935، عندما انتقل نيرودا في مهمته قنصلاً إلى إسبانيا، «حيث توطدت علاقته أكثر فأكثر مع الشاعر الإسباني «لوركا» الذي قدمه في أمسية شعرية»»4».
بعد عام من وجود نيرودا قنصلاً لبلاده في إسبانيا، اندلعت حربها الشهيرة بين الجمهوريين والملكيين، في عام 1936، فاتخذ موقفاً حاسماً إلى جانب الجمهوريين، وبدأ بكتابة قصائد ديوانه: «إسبانيا في القلب»»5»، وفي عمله الشعري اللافت هذا «أرخ نيرودا لهذه الحرب البشعة، وما حملته من مآس، أبرزها «تأثيراً في نفسه» إعدام صديقه الشاعر لوركا»»6». ومما جاء في قصيدة رثائه له:
«لو أستطيع أن أبكي من الرعب في منزل منعزل
لو أستطيع أن أنزع عينيّ وأكلّمهما
لفعلته من أجل صوتك البرتقالي الحزين
ومن أجل شعرك الذي يتدفق صارخا
أريد أن أتوجك أيها الفتى
المرح كالفراشة، الممتلئ بالعافية
كبرق أسود طليق إلى الأبد...
هكذا الحياة يا فيدريكو،
وهذا ما تستطيع أن تقدمه لك صداقتي،
كرجل قوي الرجولة كئيب»»7».
سبق أن كتب نيرودا قصيدة للوركا قبل أن يموت، رآها النقاد لاحقاً تنبؤاً بنهايته، يقول نيرودا عن لوركا وعن قصيدته تلك: «كانت القصيدة غريبة، غريبة لأنه كان شخصاً سعيداً للغاية، مخلوقاً مبتهجاً. وقد عرفت قلة من الناس مثله. كان تجسيداً.. حسناً لن نقول للنجاح، بل لحب الحياة. كان يستمتع بكل دقيقة من وجوده، كان مبذراً عظيماً للسعادة، ومسرفاً فيها. ولهذا السبب، فإن جريمة تصفيته هي واحدة من أكثر الجرائم الفاشية التي لا تغتفر»»8».
في أواخر عام 1936»عيّن قنصلاً للهجرة الإسبانية في باريس، على إثر الحرب الأهلية في إسبانيا وتعاطفه مع الجمهوريين ووقوفه في جبهتهم، فأسهم في تأمين وصول 2500 لاجئ من أنصار الجمهورية إلى تشيلي، كذلك فقد استضاف الشاعر الفرنسي «لويس أراغون» في دار القنصلية في باريس بعد تعرض الأخير للاعتداء من قبل عصابات فاشية»»9».
وفي باريس التي نقل إليها بسبب مواقفه، أصدر مجلة «شعراء العالم يدافعون عن الشعب الإسباني» ورأس تحريرها»10».
كانت قصائد ديوانه «إسبانيا في القلب» تستقبل بحماسة في غير مكان، فصدر هذا الديوان «في تشيلي عام 1937، وتوالت طبعاته في سانتياغو وبوينس أيرس، وترجم إلى الفرنسية وصدر في باريس مع مقدمة كتبها لويس أراغون عام 1938، وصدر مترجماً إلى الروسية عام 1939»»11».
تنوعت صور انهماكه في الحياة الثقافية والسياسية العالمية بعد مرحلة إسبانيا، ففي عام 1949»حضر نيرودا المؤتمر العالمي لأنصار السلم في باريس، حيث أصبح عضواً في المجلس العالمي للسلام وشارك في الاحتفالات بمرور 150 عاماً على ولادة الشاعر بوشكين في الاتحاد السوفياتي الذي سافر إليه في العام نفسه... كما زار عدة بلدان في العام نفسه، واجتمع بجواهر لال نهرو في نيودلهي.. وانتخب عام 1957 رئيساً لاتحاد كتاب تشيلي»»12».
عاش نيرودا متفاعلاً مع قضايا عصره، وطنياً وعالمياً، غير أنه استمر يذكر سنتي إقامته في إسبانيا في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، العاصفة بأحداثها، ولاسيما حدث مصرع صديقه لوركا، بحنان خاص طوال عمره، فصرح قبيل رحيله، في مقابلة نشرتها معه مجلة ثقافية فرنسية، واصفاً ذكريات حياته بقوله: «ربما تكون أكثر الذكريات كثافة في حياتي في إسبانيا... كان من الرهيب رؤية جمهورية الأصدقاء تدمرها الحرب الأهلية، التي مثلت الواقع المرعب للاضطهاد الفاشي. تم تفريق أصدقائي، وبعضهم أبيد هناك، مثل غارثيا لوركا، وميغيل هيرنانديز، وآخرون ماتوا في المنفى، وبعضهم ما زال يعيش فيه، كانت تلك المرحلة من حياتي ثرية بالأحداث، والعواطف العميقة»»13».
لقد ظل اسم لوركا حاضراً في أدبه وحياته، يثير لدى الذين يكتبون عنه شعوراً بالقرابة الأدبية بينهما، ولعل مثل هذا الشعور هو الذي دفع سكريتير الأكاديمية السويدية، عندما منح جائزة نوبل عام 1971، بعد أن رشح لها مرات عدة، طوال عشرين عاماً، إلى أن يورد في اعتبارات منحه الجائزة، آراء لوركا فيه، ومنها قوله عنه: «الشاعر الأقرب إلى الدم منه إلى الخبز»»14».
في 24-9-1973 وافته المنية مريضاً في إقامته الجبرية، بعد أيام من مصرع صديقه سلفادور الليندي وإطاحة عسكر الجنرال بينوتشيه بالجمهوريين وانتخاباتهم في تشيلي.
هوامش
1-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»
2-كوستي، ألبيرتو، 2003- بابلو نيرودا. ترجمة صالح علماني، سلسلة آفاق ثقافية، الكتاب الشهري 5، وزارة الثقافة، دمشق، «159ص» ص12
3-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»، ص271
4-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»، ص272
5-كوستي، ألبيرتو، 2003- بابلو نيرودا. ترجمة صالح علماني، سلسلة آفاق ثقافية، الكتاب الشهري 5، وزارة الثقافة، دمشق، «159ص» ص12
6-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»، ص272
7-مارسيناك، جان، 1979- نيرودا عاشق الأرض والحرية. ترجمة أحمد سويد، دراسة ومنتخبات شعرية، دار ابن خلدون، ص164. عن المرجع السابق
8-نيرودا، بابلو، وإزرا باوند، وت.س.إليوت، 2009- أسئلة الشعر. ترجمة وتقديم أحمد الزعتري، أزمنة للنشر، عمّان، «94ص»، ص 75.
9-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»، ص273
10-كوستي، ألبيرتو، 2003- بابلو نيرودا. ترجمة صالح علماني، سلسلة آفاق ثقافية، الكتاب الشهري 5، وزارة الثقافة، دمشق، «159ص» ص13.
11-كوستي، ألبيرتو، 2003- بابلو نيرودا. ترجمة صالح علماني، سلسلة آفاق ثقافية، الكتاب الشهري 5، وزارة الثقافة، دمشق، «159ص» ص13
12-أبو عسلي، نبيل عارف، 2003- بابلو نيرودا .. شاعر الشعب الأول. مجلة المعرفة، العدد 473، شباط، وزارة الثقافة، دمشق، «11ص»، ص273
13-نيرودا، بابلو، وإزرا باوند، وت.س.إليوت، 2009- أسئلة الشعر. ترجمة وتقديم أحمد الزعتري، أزمنة للنشر، عمّان، «94ص»، ص 74.
14-كوستي، ألبيرتو، 2003- بابلو نيرودا. ترجمة صالح علماني، سلسلة آفاق ثقافية، الكتاب الشهري 5، وزارة الثقافة، دمشق، «159ص» ص4