على خلاف العصور المضطربة التي يبلغ فيها إحساس الإنسان بالخطر والامتلاء بالتاريخ، كأنه عاش أكثر من حياة واحدة. بمعزل عن هذه الفكرة التي يبدو فيها وكأن مزاج العصر يختار البشر للعيش أو عدم العيش بعملية اصطفاء غير محايدة تميز بينهم حسب ركودها أو غليانها. يكتب توماس مان في روايته الكبرى «جبل السحر»:
«إن المرء لا يحيا فقط حياته الشخصية، كونه فرداً، لكنه أيضاً، بصورة واعية أو غير واعية، يحيا حياة عهده ومعاصريه».
ينطبق هذا الكلام على البشر بمختلف أنواعهم، وإن كان بعضهم يعيشون عصرهم بصورة غير واعية، ولا يدرون أنهم يحملون في دواخلهم الساكنة ذلك التخبط والثوران لعالم يبدو على السطح راكداً، بينما في الأعماق يجيش بمعالم لا تغفل حتى التفاصيل الصغيرة لما حفل به من تحولات كبيرة ومنعطفات لم تخل من مآس وأنواء وأعاصير، لا تقتصر عليهم وحدهم. ولو تأملوا ما انطوى فيها، لاندهشوا قبل غيرهم لما احتوته من أحداث مصيرية، وما اختزنته ذاكراتهم من أشخاص لعبوا أدواراً لافتة.
يأخذ الكُتّاب في هذه القسمة العادلة، الحصة الأكبر والعبء الأشد، ما يوفر لهم الحظوظ الأوفى، فهم لا يعيشون عهودهم وعهود معاصريهم فقط، بل يكتبونها، ويكتبون عنها وحولها في أبحاثهم ودراساتهم سواء النظرية والعلمية، أو العلوم المختلفة المجردة والتطبيقية. نتلمح فيها الإنسان الذي لا يغيب عنها، فهو محورها وشاغلها ومقصدها.
وربما كان للأدباء قصب السبق في مضمار يزيح الستار عن رغباتهم الطليقة التواقة للتغيير، والمشبعة بالأمل، والموسوسة بالموت، بكتابة مثقلة بوعي شقي، من دون التواني عن الحفر في اللاوعي، والتبصر في الذات والواقع، بإحساس مرهف مبالغ به، قد يدفع بعضهم إلى الانتحار تحت وطأة مكابدة العيش، أو التماهي مع ما يصيب الآخرين من ظلم وعسف، رغم ما يباعد بينهم، وطالما منح أدباء حياتهم لقضايا لا تمسهم قدر ما تمس حياة غيرهم من البلدان والجنسيات الأخرى، لكنها تعنيهم من الناحية الإنسانية، وأحد الأمثلة التي التهمت حياة كثير من الأدباء والشعراء، الحرب الأهلية الأسبانية، التي كانت الاختبار الأقسى لمن ينشدون عالماً أفضل.
وإذا كان الكاتب يحيا إضافة إلى حياته الشخصية حياة معاصريه حسب قول توماس مان، ونحن معه في هذا القول. فمن هذه الناحية أيضاً، ليس كل كاتب تستهويه كتابة سيرته الذاتية، لكنه يًضمّنها متناثرة في كتاباته، وفي هذا امتياز لا يجوز إغفاله، إذ تكاد لا تخلو رواية من ملمح ذاتي مستقى من حياة صاحبها. وما الرواية التي يكتبها المرة تلو المرة إلا اختراق سيرته الشخصية لقصص غيره، فهو لا يتطفل عليها، بل يعيشها، شاهداً ومشهوداً، يطل على حياة هو في صميمها وعلى هامشها في آن واحد. وربما كانت مغامرته الأكثر إبداعاً وإمتاعاً وإثارة، أن يموت في رواية ليحيا في أخرى. الحياة الحقيقية، تتسع لأكثر من فسحة للعيش وأكثر من فرصة للعمل، لكن أن نحس أولاً وأخيراً بالآخرين الذين هم نحن، وعدم الترفع على آمالهم وشقائهم، وألا نكون مطية لجشعنا وفريسة لمصالحنا الضيقة، بهذا ننصف الحياة نفسها ونصبح جديرين بها.