|
مــــــن دفتــــــــر الذكريــــــــات... كتــــــاتيب الأمـــــــس ثقافة وبما أنني درست في اثنين من هذه الكتاتيب أواسط الثلاثينيات في حي (باب القبلي) بمدينة حماة، وكان لها تأثير في حياتي العلمية والثقافية بعد ذلك، فإني سأحاول فيما يلي اعطاء وصف كاف لهذه الكتاتيب وطريقة التعليم فيها. خلال السنوات الخمس التي مرت بين 1935 و1941 تلقيت نوعين من التعليم: التقليدي والابتدائي الرسمي. - بالنسبة للتعليم التقليدي تلقيته على يد شيخين جليلين هما بالتتالي: الشيخ محمود والشيخ حجوسف (الحاج يوسف): 1) كان كتّاب الشيخ محمود عبارة عن غرفة واحدة في بيته مفروشة بحصير لجلوس الأولاد الذين كانوا من الصبيان والبنات ممن تتراوح أعمارهم بين الخمس والعشر سنوات. وفي طرف الغرفة كان هناك مرتبة مغطاة بجلد خروف وهي مخصصة للشيخ محمود، وبما أن هذا الأخير كان ضريراً فإنه كان يستعين بزوجته (الشيخة فاطمة) لحفظ الانضباط وفرض العقوبات. وكانت الأجور تستوفى مرتين في الاسبوع: عينياً على شكل رغيف خبز وتقدم كل يوم أربعاء ولذلك يسمى «رغيف الأربعاء» ونقدياً بقطعة من فئة «قرشين سوريين» وكانت تعادل من حيث قيمتها الشرائية نحو عشرين ليرة سورية في قيمة هذه الأيام وتدفع يوم الخميس من كل اسبوع ولهذا تسمى «الخميسية»! وعند التخرج- ويسمى الختم- يجب أن يدفع ولي التلميذ مبلغاً يعادل خمس ليرات سورية أو ليرة ذهبية عثمانية واحدة حسبما هو متيسر له. وإلى جانب هذه الأجور الالزامية كان هناك أجور اختيارية حيث غالباً ما كان الواحد منا يأتي بكمية من الفحم في أيام الشتاء الباردة مساهمة منه بعملية التدفئة أو يجلب معه صحناً من الطعام أو الحلويات مما طهت أمه أي «أكلة طيبة» أو طبقاً من الحلويات! - هذا من حيث الأجور وأما من حيث المواد التعليمية فإنها كانت تبدأ من الصفر، من الاشتراك في ترداد لازمة «ألف لاشين عليها» - أي الألف لا شيء عليها- وانتهاء بقراءة سورة البقرة أي «ختم القرآن الكريم» وكان تعليم القرآن يتم عن طريق القراءة والتلقين ثم الحفظ عن ظهر قلب بدءاً من «جزء عمّ» ثم «ربع ياسين»، ومن السور الطويلة حتى الوصول إلى سورة البقرة». وكانت مدة التعليم تختلف حسب درجة ذكاء التلميذ واستيعابه، وقداستغرقت معي أنا.. وأعوذ بالله من كلمة أنا.. سنتين كاملتين، بين الرابعة والسادسة من عمري. ولا أزال أذكر ذلك اليوم الذي ختمت فيه القرآن حيث ألبست ثياباً جديدة وطربوشاً مغطى بأسلاك من الفضة، وطاف بي أخي الأكبر- الذي كان يمشي أمامنا حاملاً القرآن - ومن خلفنا الوالدة وبعض النساء في مختلف طرقات الحي وكان الجميع يزغردن أو يصفقن سواء من كن يمشين في موكب الختم» أو من يمر الموكب أمام بيوتهن. وبعض هؤلاء الأخيرات كن يتبرعن برش «المازهر» أو «الماورد» أو «الكولونيا» على الموكب من الشرفات! 2) أما كتّاب الحاج يوسف فكان مؤلفاً من ثلاث غرف وكان مقصوراً على الذكور فقط من أعمار تتراوح بين 10 سنوات و15 سنة ولم يكن فيه دفعات عينية وإنما أجر شهري بمعدل ليرة سورية فقط في أول كل شهر أو ربع ليرة في الاسبوع وكان هذا الكتاب بمثابة «الدراسات العليا» بالنسبة لكتاب الشيخ محمود حيث درسنا فيه تجويد القرآن والنحو والحساب وصدقوني إننا درسنا ما يفوق المستوى الذي يدرس في الحلقة الاعدادية اليوم ففي التجويد كنا نعرف حروف الوقف والقلقلة والقطع والوصل. وفي الاملاء كنا نعرف متى تكتب كلمة «ابن» بألف ومتى تكتب دون ألف، ولماذا يجب كتابة اسم «عمرو» بواو في آخره وكلمة «داود» بواو واحدة، وكان يقال لنا - بغية حفظ القاعدة - إن «عمرو» قد سرق واواً من داود! وفي القواعد كنا نعرف «اللام المزحلقة» كقولنا «إن الله لغفور رحيم» و«الكافة والمكفوفة» كقولنا «إنما المؤمنون إخوة» وأحكام العدد والمعدود... وفي الحساب كنا نكلف بحل المسائل التي تحوي العمليات الحسابية الأربع (الجمع والطرح والضرب والقسمة) والموازين الواجب استخدامها للتأكد من صحة العملية التي قمنا بها! وخلال السنة الثالثة والأخيرة في مكتب الشيخ حج يوسف درسنا العمليات الحسابية من خمسة أرقام وكنا نستخدم كلمة «لك» بدلاً من عبارة «عشرة آلاف» وكلمة «كرّة» بدلاً من عبارة «مئة ألف» وأما رقم مليون فلم نعرفه ولم نستخدمه. والطريف أننا لم نكن نستخدم الكسور العشرية وإنما نعبر عن النصف بهذه الاشارة (ـا) بدلاً من 1/2 أو 0.5 ونعبر عن الربع بإشارة (-) بدلاً من 1/4 أو 0.25 وعن الثلث بإشارة (-ْ) بدلاً من 1/3، وعن الثلاثة أرباع بإشارة (ــــَا) بدلاً من 3/4 أو 0.75 ولكي أعطي القراء الأعزاء فكرة تساعدهم على تقييم الكتاتيب التقليدية والتعليم فيها أقول: إنني ظللت طيلة فترة دراستي الابتدائية متفوقاً على رفاقي بفضل ما درسته في كتّاب «الحج يوسف» وكثيراً ما كان أحد هؤلاء الرفاق يسألني عن حل مسألة ما، أو كتابة كلمة ما فأعطيه الجواب!
|