تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كل خميس .. تمساح..  وأشياء أخرى تمســاح

ثقافـــــــة
الخميس 2-2-2012
 حكيم مرزوقي

(هناك في ملكوت الليل الكلي الواسع الأرجاء حيث لا يصيب الإنسان إلاّ وحيداً أوحد هو النسيان الرباني الخالد القديم)تتت. شوبنهاور.

ولد التمساح وحيدا،فتح فكّيه في كلّ الاتجاهات وبدأ بافتراس الوقت الذي يحاصره...وكلّما تذكّر عجزه عن المواجهة ذرف الدموع..  من يومها نشأت البحيرة التي يسبح فيها الآن ولا يغادرها إلاّ لتنظّف العصافير ما علق بين أسنانه من ذكريات.‏

 البحيرات إذاً  ليست إلاّ دموعا ذرفتها التماسيح على نفسها ثمّ سكنت إليها أمّا العصافير فهي كل الأشياء التي لا يبتلعها النسيان حفاظا على نصاعة وحدّة أنيابه التي تضمن بقاءه وعدم انقراضه.‏

النسيان يلتهم كلّ من يهدّد وجوده  أو يشكّك فيه:دفاتر العشاق والكتاب,حجارة المعماريين,أزاميل النحّاتين،ألوان الرسّامين،أنغام الموسيقيين,هوس المتناسلين...وشواهد القبور.‏

النسيان تمساح سميك الجلد والذاكرة،صريح الأسنان والعداء،عصيّ عن الصيد والملاعبة.. ولا يطبق فكّيه على العصافير الصغيرة إلاّ إذا كانت في جوف مفترسيها...ربّما كان ينتقم لها من ضحاياه...!.‏

النسيان بحيرة يسبح فيها النسيان,ولا تجفّ أبدا لأنها تتغذّى من دموع القهر والندم وكوميديا طلب الخلود.‏

النسيان هو نحن بعد أن تحتوينا طهارة الأعماق، قبل أن يرتدّ إلى النسيان رمشه...وكألف عمر ممّا نعدّ نحن في سجن الذاكرة.‏

ترى,كيف تأكل التماسيح بعضها ثمّ تعود للتناسل من جديد,وكيف تتمكّن من هضم بعضها البعض...هل ينسى نفسه النسيان.؟!.‏

الآن عرفت أنّ التذكّر ليس مقاومة للنسيان وإنّما استدعاء له ورغبة في عدم نسيانه... هل كان افلاطون مصيباً في قوله:(المعرفة تذكّر والجهل نسيان) وهل يناقضه قول (ابسن): (سنعلم يوم نبعث من بين الأموات)؟.‏

ما فائدة العلم عندئذ؟نعلم بأنّنا لم ولن نعلم؟!...ماذا سوف يتغيّر من جوهر الأشياء إن أنت  نظرت إليها من زوايا متعدّدة وأبعاد مختلفة؟‏

وللتماسيح  والبحيرات والأسئلة الدسمة(عالريق) قبل تناول الإفطار!؟.‏

رأسي الصغير تؤلمني.. مالي وللتماسيح والبحيرات والأسئلة الدسمة (على الريق) قبل تناول الإفطار ؟!.‏

كل ما أردت قصده هو كتابة زاوية صحفية قد لايقرؤها أحد وتذهب أدراج النسيان....عدنا للنسيان من جديد,ما هذه الورطة.‏

إن حالتي تشبه حالة ذاك المريض المصاب بفقدان الذاكرة,ذهب للمعالجة وبعد الفحص طلب منه الطبيب أجرة المعاينة فنسي وأنكر مدّعيا أنّه مصاب بفقدان الذاكرة.‏

إذا كان صادقا فالحق معه والعتب على الطبيب الذي يطلب أجرة المعاينة دون أن يشفيه من (علّته) وإن كان المريض كاذبا فلماذا يقصد عيادة الطبيب أصلا وما هو وجه التسلية بمقابلة طبيب..أمّا السؤال الأخطر فلماذا الإصرار على التذكّر أو النسيان؟ ما فائدة أن نستحضر فكرة دون تجسيد مادي و(زمكانيّ)؟وإذا أردنا أن ننسى فكرة فلن ننساها أبدا،ذلك أنّ مجرّد الرغبة في نسيانها هو إصرارنا على تذكّرها.‏

إنّ الأمر يشبه من يمحو رقم الذي كان يحبّه من ذاكرة التلفون وينسى أنّ للأصابع ذاكرة وكذلك للعيون التي تقرأ أشكال الأرقام.‏

 أماّ من يريد أن يذكّر نفسه بشخص أو موعد ويصرّ على شتى علامات التذكير والتنبيه فلا شكّ أنّه يرغب في نسيانه بعقله الباطن.‏

لكنّ المحيّر أنّ الذاكرة انتقائيّة بطبعها ولمناخلها وغرابيلها المتعدّدة عيون مختلفة الأحجام, حسب الرغبة والهوى والاهتمام،فالحاقدون والحانقون وطلاّب الثأر ضيّقة عيون مناخلهم كآفاقهم،أمّا المتسامحون والمحبّون فمتّسعة مثل قلوبهم.‏

وتبقى  أروع مصافي الذاكرة هي تلك التي تجمع كلّ شيء ويتصالح فيها الصغير مع الكبير,الجميل مع القبيح,الفقير مع الغني.. ويتزوّج فيها الجرح بالابتسامة.‏

إنّ أجمل قصص الحبّ وأبقاها في ذاكرة التاريخ هي تلك التي نسيت الخلافات وجمعت بين عاشقين من عشيرتين متحاربتين في الفكر أو السياسة أو الاقتصاد أو العرق  أو العقيدة.‏

يبدو أنّ الإنسان يحمل بين كتفيه رأسا كي يذكّره في كل مرّة بالنسيان وينسيه التذكّر...لذلك سوف أختبئ بين فكّي تمساح هربا من التذكّر وأنظّف أسنانه كي لا يلتهمني تمساح النسيان.‏

hakemmarzoky@yahoo.fr

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية