هي سيرة ذاتية لكائن يعي على نحو فريد ضرورة وجوده وحتمية حياته. وتستمر الرواية في كتابة سيرتها الذاتية معيدة في كل لحظة إعادة إنتاج تلك الضرورة منذ اللحظة التي اكتشفت فيها الذات الحديثة أن العالم فقد تلك البداهة والتناسق في عالم الملاحم القديم، حيث كانت السماء الساطعة بالنجوم هي خريطة الكون بكل ما يحتويه من إتجاهات واحتمالات،
وحيث كان العالم وطناً مألوفاً رغم إتساعه وأسراره. إن هذا الشعور بالانتماء وبالعلاقة الهارمونية بين الإنسان وبين الكون قد زال واختفى وتحولت العلاقة مع المكان إلى إشكالية معقدة. وهنا أتت الرواية لتقدم خرائط المكان الحديث. فالعالم الحديث يتميز بالإنفصام والتناقض بين الداخل والخارج وبإحساس كلي بالتشتت والضياع. إنه عالم هجره خالقه وتركه لغربة وجودية عميقة ولأحساس مقلق بفقدان المكان.
لقد أرخ جورج لوكاتش لهذه اللحظة الحضارية التي جعلت من الرواية ضرورة. وكانت هذه اللحظة تحولاً عميقاً فقد فيه العالم خرائط المكان، ولم تعد فيه الخرائط الطبوغرافية والجغرافية سوى تمثيلات مجردة لا تتطابق مع الزمكانية الحديثة. زال التطابق بين الخريطة وبين المكان ولم يعد لتلك الخريطة أن تمارس وظيفة المثال التوضيحي الذي استعمله الإنسان لوعي المكان ولرسم جهات حركته فيه. وهنا كان لا بد من شكل جديد لخريطة جديدة قادرة على رسم تمثيلات حقيقية للمكان الحديث. وكما يقول روبرت تالي، “لقد حل السرد مكان الخرائط. إن السرد في شرط العالم الحديث عملية تحول العالم إلى خرائط. السرد شكل جوهري من أشكال وعي الإنسان وإدراكه للعالم. وبهذا المعنى، يعمل السرد بنفس الطريقة التي تعمل بها الخرائط على تنظيم جزئيات ومعلومات الحياة في سياق أو نموذج قابل للإدراك، وتكون النتيجة عالماً روائياً يقدم مثالاً توضيحياً قابلاً للإدراك عن المكان. إنها الطريقة الوحيدة لإبداع معنى ما لهذا المكان”.
في مرحلة لاحقة كان على الرواية أن تكون مرة أخرى ضرورة لمواجهة مأزق جديد وللتعبير عن تحول لا يقل خطورة وعمقاً عن ذلك التحول الذي رصده جورج لوكاتش. لقد حدث هذا التحول في تلك العلاقة بين المكان وبين مفهوم الوطن. فلقد حصل خلل ما في ثنائية المكان-الوطن، ولم يعد المكان بالضرورة مرجعية جغرافية-تاريخية لمفهوم الوطن. لعب التاريخ السياسي للقرن العشرين دوراً حاسماً في هذا التحول من خلال الاستحواذ السياسي-الأيديولوجي ليس على جغرافية المكان فقط، بل على تاريخه أيضاً. أدت هذه العملية إلى عملية تسييس غير مسبوقة للمكان، مما أدى إلى نشوء تناقض وافتراق بين المفهوم الأيديولوجي-السياسي للوطن وبين المفهوم الفردي لهذا الوطن. ويشير الناقد ديفيد ماركوس إلى أن المثال النموذجي لهذه الحالة هو الإبداعات الروائية لكتاب أوربا الشرقية خلال فترة أواخر القرن الماضي. ولعل ماركوس يقصد هنا كتاب من أمثال ميلان كونديرا، إيفان كليما، جوزيف سكفورسكي، شيسلو ميلوس، دانيلو كيش وجورج كونراد.
يقول ميلان كونديرا: “إن الصراع ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان”. يشير كونديرا هنا إلى نزعة أصيلة وواضحة لدى معظم روائيي العقدين الأخيرين من القرن العشرين. إنها نزعة إعادة كتابة التاريخ بصيغ مغايرة للسرديات التاريخية التي كتبت من قبل السلطة. وفي الكتابات الروائية هذه شغف عارم في إبداع سرديات مضادة للتاريخ السلطوي عبر عملية استثمار مكثف للتاريخ الفردي-الشخصي. تحولت الكتابة الروائية إلى عمل دؤوب على الذاكرة الفردية بهدف كتابة تاريخ الذات كسردية تناقض سرديات السلطة. ولعل هذا ما يفسر السمة الأوتوبيوغرافية لجانب كبير من الأعمال الروائية في هذا السياق. لقد أصبحت الحدود هشة ومضطربة بين الرواية وبين السيرة الذاتية في معظم تلك الروايات التي تصدت لمهمة إعادة كتابة التاريخ.
لكن عملية التمرد على التاريخ هذه لم تكن منفصلة عن هاجس المكان. لقد عاد المكان مرة أخرى ليكون القلق الروائي الأكبر. إن كل ذلك البحث المحموم عن تاريخ بديل هو في عمقه سعي نحو استعادة المكان الذي استحوذت عليه السلطة وحنطته في خرائط أيديولوجية-سياسية . إنه سعي نحو إستعادة المكان-الوطن من خرائط السلطة. وبهذا المعنى تعود الرواية في لحظة فارقة جديدة لاتزال مستمرة في مطلع الألفية الثالثة إلى أن تكون ضرورة توجبها الحاجة إلى خرائط للمكان. لكن الجديد في هذا التحول أن الذاكرة هي هنا الفضاء الذي يتحول فيه السرد إلى خرائط للعالم المعاصر. وفي هذا السرد المقاوم للنسيان، حسب ميلان كونديرا، لا تسعى الرواية إلى إعادة التطابق القديم بين طرفي ثنائية المكان-الوطن، بل إنها تسعى إلى إعادة التوازن بين طرفيها في عملية واعية ترصد ذلك التمايز بين المكان وبين الوطن كمفهومين، ولا تلغي إمكانية التقاطع أو الصراع بينهما أحياناً.
إن نظرة فاحصة إلى الإبداع الروائي في جغرافيات وثقافات متعددة يمكن لها أن ترصد هذا التحول في الكتابة الروائية. وليست الرواية السورية سوى نموذج تتجلى فيه تحولات ذاكرة المكان الروائي آنفة الذكر. ولعله من الحيوي الإشارة هنا إلى حقيقة ذات دلالة خاصة وهي أن تحولات ذاكرة المكان الروائي تتجلى بشكل خاص في أعمال الروائيات السوريات. لقد استطاعت بعض الروائيات السوريات إنجاز مبادرة روائية بكتابة التاريخ البديل أو المضاد وباستعادة المكان من خرائطه السياسية-الأيديولوجية. ومن المؤكد أن أسبقية وخصوصية الصوت الأنثوي في هذا السياق ليس مجرد صدفة، بل حقيقة سياسية وثقافية لها دلالات لا بد من درسها وتحليلها.