لوهلة نسي أنه مات منذ أشهر . ثم تذكر فجأة أنه لملم أوصال روحه بعد الجنازة ، وبصعوبة ارتفع حتى استلقى ثم غفا على غيمة عابرة .
كانت العاصفة ما تزال هائجة تحرك رياحها العاتية النافذة . برغم لامبالاة وديع بهباتها الباردة انسل من نفق حياته البائدة نداء خفي دفعه لإغلاق الدرفة التي كاد زجاجها أن ينكسر من قوة الريح .
على الكرسي كان مرتاحاً، لكنه منزعج من روائح البرغل المطبوخ القادمة من الممر إلى الصالون . كان في حياته قد حقد على تلك الأكلة بعد إقياء سببه البرغل ذات غذاء . لايدري لم تنامى لديه شعور غامض بالخوف ! .
كان الصمت الذي أخذ يراوح في المكان مختلفاًعن ذاك الذي استند إليه فيما مضى أثناء التأليف والإبداع . هنا كان الهدوء مفترساًيحيط بروحه ويكاد يحولها إلى فتات .. ولكن هناك ، وعلى مايذكر من صور الحياة ، كان دوماً يشغل نفسه بشيءٍما ليصرف عن نفسه مشاعر الخوف والقلق .
بحذر جال ورفرف تحت السقف ، وحام حول الطاولة .
حين رأى صورته في جريدة توقف ،وظل برهة يرمرم شأنه ثم سرعان ما رفرفت كل خفقة من روحه بأسى .
الجملة المكتوبة في أعلى الصفحة بخط كبير قرأها بحيرة ودهشة : “اثنا عشر شهراً في حضرة الغياب “ .للحظة لم يصدق أنه مات منذ سنة !. شيئاً فشيئاً اقترب من الجريدة ثم راح يحدق إلى صورته عندما كان حياً. بنظارته السميكة ونظرته التأملية كان يبدو حزيناً.. لم يأت الفرح في حياته الماضية كما جاء الألم دائم اليقظة . الشيء الوحيد الذي كان يسره أحياناً هو تلك المعا ني التي كانت تتحول إثر جر القلم على السطور إلى ظلال من البهجة .
بشيء من الحماسة أخذ يقرأماكتب عنه : “ بمناسبة مرور سنة على وفاة الشاعر العربي الكبير وديع الزعنون عرض المركز الثقافي بدمشق فيلماً تسجيلياً عن حياته ...” .في تلك اللحظة سمع صوتاً رجولياً ، فانتفض ورفرف مبتعداً ثم مالبث أن كمن مترقباً على الحلقات المعدنية للستارة المعلقة عند النافذة .
بدا الرجل مغتاظاً وهو ينظر إلى الجريدة ويتململ . وما إن جاءت امرأة بيضاء ذات وجه لميس ،حتى أخذ يقرأ بصوت ٍ استعراضي :
ـ دون رأفة ينتزع الموت الصوت الذي اختزل مأساة الوطن بشعر نأى عن التقليد ...
لم ينه قراءة المقالة ، ترك الجريدة ثم قال :
ـ ما رأيك يا هند ؟ . ألا أستحق وساماً على هذا الأسلوب ؟.
ظلت المرأة صامتة ، وبما بقي من ابتسامة طلت من قسماتها الزاخرة بالدلع قرأت بعض الجمل التي كتبها الرجل .
غريبة تلك اللامبالاة حقاً !. لقد رمت الجريدة باستخفاف قبل أن تحيط خصر الرجل بذراعيها البيضاوين . وركزت نظرات عينيها في عينيه وهي تقرب شفتيها من عنقه القمحي اللون ، ولعلها قالت بصوتٍ هادئ :
ـ “إذا بدك يا حبيبي تطعمي شّبع ، وإذا بدك تضرب وجّع “ . كأنك لم تسمع يوماً بهذا المثل . كان بإ مكانك أن تكتب عن وديع زعنون صفحة أخرى . حتى يحفر اسمك ذهن القارئ يجب أن تسهب ياشاطر .
وصاح الرجل بارتباك :
ـ أوه .. هند. إذا أسهبت تقولين اختصر . و إذا اختصرت تقولين اكتب صفحة زيادة . أرجوك ارسي على بر .
لم تتكلم المرأة . أخذت تلثم عنقه وتهمهم . ومن دون أن تكف عن التنهد تزرع صدره بقبلات تصوت وتشهق وتلتصق وتسرع ..
أكثر من دقيقتين لم يدم وقوفهما متعانقين . جذبها الرجل إلى الممر وهو يهمس بفرح :
ـ كرمى لك سأسهب .. الروائي حسام البدلم تجاوز عمره الثمانين . أظنه المرشح الأول على قائمة الموتى . إي والله والله عندما يعطينا عمره سأكتب مقالة من كعب الدست . وإذا لم أفعل اشطبي أغلى أكلة على معدتي من قاموسك الطبخي . يمممممم... ما أطيب البرغل ببندورة .
داهمت وديع نداءات الذوبان الروحي فتبعهما .. البيان البليغ لعناقهما أظهر لديه أكمة من الانفعالات المتراكمة . سفح جسده ـ الذي بقي أجرد في فترة من حياته ـ اختزن فيضاً من الوصال والفراغات .
حين تعرى الرجل والمرأة تخللت روحه أبيات من شعره الذي ألفه قبل موته بأشهر . كل ما كان يخص الإدراك والجسد والحقائق الظاهرة طوعها أثناء مرضه في معانٍ فأصبحت على مقاس تصوراته عن الأبدية والأزل .حتى النفاق طواه في نهاية محتملة ..
وبهت وهو يفكر !.
ما الذي فهمه حقاً من الدنيا والأبدية؟.
حاول أن يعود إلى مراقبة الرجل والمرأة .. غير أنهما كانا قد تدثرا باللحاف ولم يعد يظهر سوى جزء من رأس الرجل .
على صعدٍ شتى كان وديع يشعر بأسى يتأرجح بين الجمود والحركة . في تلك اللحظة كان بحاجة لغيمة يفترشها ولا يفكر إلا في بيت شعر ينظمه عن يوم ما زال ينتظره بخشية .. وارتفع كالريشة في الهواء ،ثم جلس على غيمة داكنة كانت تسرع نحو الشرق .
نسي اللغة ونسي القيامة ونسي الرجل والمرأة وهو يراقب المدينة من الأعلى . .بلهفة أخذ يبحث عن الشارع الذي كان يمشي فيه وحيداً وهو يتأبط توقاً غامض الطعم وحزناًبحجم الكون .