تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مليون في الميزان

الملحق الثقافي
10/2/2009م
قصة: علي ديبة

قرأ الرقم بعينين أكثر من مفتوحتين، واحد إلى اليمين وإلى يساره ستة أصفار كاملات.

صارت تلك المسافات الهاربة رابضة على مرأى بصره، وبعد حين من الوقت سوف يدفع بها إلى حظيرته حاملة على ظهرها مليون ليرة.. يعني ألف ورقة من فئة الألف، كما يعني عشر رزم, وكل رزمة تضم مائة ورقة خضراء, لاشيء بعد هذا سيحول بينه وبين أحلام عاشها مع زوجته لردح طويل من الزمن .‏

منذ الأيام الأولى لعشقه، تلك الأيام الرائعة التي تسبق الخطوبة والزواج, أمسك يدها وأقسم لها صادقاً بأنه سيكافح لأجل سعادة يعيشانها معاً, وأنه سينتصر على كل العقبات والصعوبات إن هي أخلصت لحبها وعاشت لأجله, بالحب وحده سيصلان معاً إلى ضفة أحلامهما العذبة, فيبنيان عشّاهما إلى جوار حقول من قصائد عشقهما الأبدي. بيت مشرع الأبواب والنوافذ، تبيت على شرفاته أنفاس المساء, توقظها زقزقات العصافير عند الصباح, كل شيء بداخله يشي بالحب والدفء والفن والجمال.‏

هكذا نحن البشر, نصدق ونؤمن برسوم لونّاها بريشة أمنياتنا, فتأخذنا وتطير بنا لترمينا على شاطئ آخر من الشواطئ الغريبة, وقد تتلاشى سنوات عمرنا, ويذوي ضوء العيون منا, ونبقى نركض في عتمة الزمن باحثين عن بصيص من ضوء رغباتنا, وهل تستقيم حياتنا من غير هدف نركض إليه، أو ُمثلٍ نرفع رايتها فوق هضاب العمر.. هكذا تواجد البيت الحلم في ذاكرة فارسٍ أصرّ على مواجهة الأيام بالحب والحنان والدفء, فحصل على الترس وأفلت السيف من يده .‏

قبل وقت من استلام هذا المبلغ كزّ على شفته أسفاً على ألوف زادت على الثلاثين, طارت هكذا في الهواء، حسمتها موظفة المصرف قائلة: هي رسوم التعامل مع المصرف. اهتزّت وعودٌ كان قد قطعها بين أحضان زوجته, أو هي لم تكن وعوداً بمعنى الوعود، بقدر ما كانت لحظات سعيدة عاشاها مع مليونهما القادم, المليون الذي سيعزف أناشيده في رحاب من موسيقا الآمال والمرح وسعادة الأحلام.‏

البيت معبَدُ الحب والأمان والحنان جاء في مقدمة الحصص، لابد من إكسائه كما يجب أن يكون عليه إكساء العروس ليلة زفافها. يليه فرشٌ وفِراش يليق بعاشقين نذرا نفسَيهما لبوحٍ من التعبّد في محراب الياسمين العاشق، ورصدا الباقي من المليون لاقتناء سيارة صغيرة تقرّب بينهما وبين روابي الصعتر, المتشظية على دروب يسكنها الأقرباء والأصدقاء.‏

وتبقى الأولوية محصورة في مخططات التنظيم, تلك المخططات التي يصر المصرف المانح عليها, ويشرف على تنفيذها من حين إلى حين، و إلا اتخذ إجراءات لا تعرف معنى للرحمة, أقلها حجب الموافقة وفسخ العقد, وفي أحوال أخرى قد يبيع البيت بالمزاد العلني، من غير اعتبارات أو حسابات لكل معاني الأحلام والأمنيات، وسواها من المفردات والعبارات التي جمعت بين رأسين فوق وسادة واحدة..‏

بعد المساء بقليل أودع زوجته نظرة لا تخلو من الانكسار, خاف من انكماش المليون وضموره تحت وطأة الغلاء فلا يبقى من المال إلا قليله, أعاد حساباته مرات ومرات, هذا المبلغ للماء والكهرباء, وذاك المبلغ للطين, ومثله للخشب, وسواه للألمنيوم.. فتنفرج أساريره ويشع الألق في عينيه لمبلغ ظل أكثر من نصفه بين يديه. يشعل رأس سيجارته، يمج منها نفساً عميقاً، ويمعن من جديد في حساباته. يقلل من مبالغ الكلف هنا أو هناك فيزداد سروراً لما خاله وفراً يقربه من رغبات تشبه الأحلام, ووعود كان قد قطعها على نفسه. أيام مضت والرجل على هذا الحال, يمضي مساءه في معمعة من تقديم الأرقام وتأخيرها، مرة ينسى الصحّية, وحيناً لا يتذكر البياضات, يضيف هنا ويشطب هناك، لا يمزق صفحة إلا ليفتح صفحات جديدة. إن اقترب الولد منه لام زوجته, أو طالبها باهتمام يخفف عنه بعضاً من تعبه وشقائه, وإن قعقعت الصحاف في المطبخ أو تحرك قِدْر لسبب ما, وجد نفسه يصرخ بها على غير عادته, غير آبه بذكريات كانت قبل أيام تنشر شذاها قُبَلاً وعشقاً. ما الذي حصل؟ كيف انقلبت عربة الأحلام وتكسّرت عجلاتها؟ وأسئلة من وجع الحيرة صارت تراود رأس الزوجة المتعب, وتوقظ فزعاً ما كانت تحسب له حساباً من قبل. زاد في شكها صقيع صار يتسلل إلى فراشها, شيطان أحمر صار يتربص بها, يسألها: أ هذا هو زوجك؟ لا ليس هو ولا يمكن أن يكون, زوجك لا يطيق لحظات تبعده عنك, أم لعلك نسيت كيف كان يسعى إلى إسعادك, وكيف كان يرفض سهراً من غير ذراع يلقيها فوق أعطافك ..وأين هي الابتسامات والضحكات وتلك القبل..إن أنت فلقتِ رأسه سوف تجدين امرأة لعوباً قابعة في كل حجرة من حجرات رأسه.. لِمَ لا؟ وهو الذي يقبض بيديه على مليون صاف مصفّى.. كيف لا تفكرين ببنات الحرام؟ بصيادات الرجال, اللواتي يركضن وراء المال، حتى إذا حصلن عليه سكبن فوق رأس الرجل الغبي سطلاً من الماء البارد ساخرين من مغفل أفقده المال صوابه .‏

أيام مضت ليست كالأيام, صمت بارد خيم في سماء البيت، كأن المرأة قطعت لسانها، والرجل نسي كل مفردات الوداد، وأين هي الكلمات الرقيقة؟ تلك التي كانت تملأ أوقاتهما بالدفء, أم لعلها الأرقام أزاحتْها واحتلت مكانها؟ بعد المساء أمسك يدها, أودع في كفها حناناً صادقاً، سعى إلى جبر خاطرها بكلمات اعتادتها وألفتها، وجد نفسه تحت سيطرة أرقامه، فراح يوزعها قائلاً: ثمانون للصحية، تسعون للبلاط, خمسون فرق حسابات .. وحين قرأ في عينيها ضالة لا يعرفها سعى من جديد لاسترضائها، ولكن بقسمة مالية تخص الفرش والأثاث. ازدرد بقايا لعابه، تذكر رقة صارت من أوراق الذكريات، خاطبها بصوت تخالجه بحة التودد القديم: لم أنسَ غرفة نومنا، سريرنا سوف تزينه مرايا وشراشف وردية، خزانة من الحائط إلى الحائط, زاوية للماكياج, وأخرى لملابس نومنا الخاصة.. لم أنسَ السيارة التي تحلمين باقتنائها.. لكن حسابات البيت اختلفت قليلاً, لا بأس ببيك آب كعكاز مؤقت, وحين ألتقط أنفاسي ربما استبدلته بسيارة تفي بالغرض..‏

انفرجت أسارير المحبة، أمضيا وقتاً جميلاً وراء أطياف دافئة, وبقيت الحسابات تلتهم ما بقي في كيس الأوراق، لم يبقَ منها ثمناً لسرير يعلو بهما نصف متر عن فراش الأرض, ولا لدراجة عادية تختصر المسافة البعيدة بين بيته الجديد ودائرة عمله. لم تأبه المرأة لوعود زوجها, ولعلها لم تتذكرها, ظل الفرح ينشر أريجه دفئاً بين الحيطان البراقة, ألا يكفيها أنها لم تخسر زوجها ؟‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية