تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تجربة مسكونة بهاجسيِّ التاريخ والجغرافيا

الملحق الثقافي
10/2/2009م
أنور بدر

ينتمي خيري الذهبي إلى جيل ما بعد الرواد في الرواية السورية, لكنه لم يكن تابعاً لهم فيما كتب, ولم يستسلم لأساليب القص الكلاسيكية,

بل اشتق لنفسه ريادة في الحداثة الروائية, ريادة يقوم معمارها على المزاوجة في المعمار الفني بين بنية شرقية تتحرك وحداتها في زمن لولبي مغلق, وبين بنية غربية تشتغل على خط درامي يتحرك فيه الزمن باستمرار إلى الأمام.‏

وفي هذه التجربة يسعى الذهبي لاستعادة مفاتيح قراءة الحضارة العربية الإسلامية عبر هواجس التاريخ والجغرافيا, فالزمن لديه عنصر أساسي في بناء معماره الفني المتفرد, لكنه زمن يحتفي بالمكان ويقوم في مساحته المتعيّنة .‏

حاول خيري الذهبي في ندوة المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى أن يعيدنا إلى أيامه الأولى في حيّ القنوات على أطراف دمشق, حيث البيئة الريفية التي نما فيها طفل صغير, بدأ وهو في سنواته العشر الأولى يقرأ ألف ليلة وليلة والمقامات كما يقرأ قصص طرزان وأرسين لوبين, تلك الخلطة العجيبة والمتنافرة من عالمين شكلا مخزون ذاكرته الأولى وخزان تجربته المعرفية والروائية لاحقاً.‏

يقول الذهبي:‏

كنت أعيد تشكيل روايات طرزان وأرسين لوبين مستعيناً بأبطال من ألف ليلة وليلة, كنت آخذ العمود الفقري من الروايات المترجمة وأكسوها زخرفاً شرقياً.وعندما أعود الآن لتحليل هاتين البنيتين اللتين شكلتا ذاكرتي المعرفية والثقافية, اكتشف أن البنية الأولى الشرقية تقوم عمارتها الفنية على زمن حلزوني دائري مكتف بذاته,لم تكن تتحرك بفعل زمن خطيّ إلى الأمام, فكل شيء مقدر ونحن لن نغير شيئا منه,لذلك نجد أن الزمن يسير وفق منحى حلزوني لا يتقدم إلى الأمام, تلك الأعمال الأدبية قدمت لنا عالماً جميلا ومكتملاً بذاته لكنه لا يصل بنا إلى نتيجة, حتى الفن الزخرفي الإسلامي نجده يتألف من وحدات متشابهة ومتتالية تصنع عالماً وتأخذنا إليه دون أن تصل بنا إلى نتيجة.‏

بينما الفكر الغربي الأرسطي الذي حكم البنية الثانية للثقافية التي تأثرت بها, كان الزمن فيها يسير إلى الأمام, ويصل إلى نتائج من مقدمات كبرى وصغرى, هو فكر محكوم بقوانين تشكل القوة النابضة أو الفاعلة في حركة الزمن, وتلك الروايات المترجمة لم يكن فيها غير الحبكة الصافية, ليس فيها اهتمام بالشخصيات والحواشي, عمارة تقوم على زمن خطّي يسير إلى الأمام. وما بين هاتين الرؤيتين بدأ يتشكل عالمي الفكري والثقافي.‏

الآن عندما أعود إلى روايتي الأولى «ملكوت البسطاء», وكنت قد كتبت ثلاث روايات قبلها لم انشرها, أجد أنها ذات عمارة غربية تماماً. استعنت فيها بالمعمار الذي اشتغل عليه فوكنر ولورانس داريل, لكن مادتها محلية, والمكان هو المزة أو دمشق التي انتمي إليها, مدينة عليها أن تواجه عالمها المستقبلي في شخصيتين, الأولى عثمانية تنتمي للماضي, والثانية تحاول دخول العصر بكل ماديته وانتهازيته دون الاكتراث بقيم دينية أو تراثية أو أخلاقية.‏

في هذه الرواية كنت مخلصاً لمدرستي الأولى «لورانس داريل» أول روائي قرأت له بالإنكليزية ما بين 1959و1960, وأصبت بذهول عارم : كيف لك أن ترى عالمك المألوف «سوق الحميدية أو باب الجابية مثلاً» بعيون غربية؟ كيف يمكن أن تكتب رواية عن هؤلاء الناس البسطاء؟‏

في شرق سوريا كان الناس يعيشون في خيام, شقٌ للرجال وآخر للنساء, وشقٌ ثالث في الوسط مفتوح من الجهة الجنوبية للناس أو الضيوف, وفيما بعد عمروا بيوتهم الحديثة بنفس الآلية والطريقة, نقلوا العمارة من الخيمة إلى البلوك, لكنهم ظلّوا مخلصين للمعمار الذي عاشوا فيه. لم يطوروا أدواتاً لصنع عمارة روائية معقدة كما فعل الغرب في عمارته القوطية مثلاً .‏

لاحقاً جاء هاني الراهب ونظر في رواية «الوباء» إلى عالمه القديم بعين جديدة, وتابع في روايات لاحقة. وعندما سُئل نجيب محفوظ كيف أبدع عالمه الروائي, قال : أنا ابن المهندسين الذين بنوا الأهرامات وأبو الهول, قاصداً بذلك أن يتجاوز العمارة العربية الإسلامية ليصل ما بين العمارة الفرعونية والعمارة الغربية مباشرة. وكنت في نفس الاتجاه أحاول أن أصنع رواية مخلصة لمحليتها, ومخلصة لأحدث ما أنتجه الفكر الغربي في العمارة وفي التعامل مع الزمن.‏

في روايتي «حسيبة» كان الزمن يتقدم إلى الأمام, ولكن ضمن الرواية أزمان حلزونية تشكل وحدات منفصلة, يأتي الراوي ليقطع ذلك الزمن الشرقي بضربة إيقاعية قاسية ومفاجئة معلناً الانتقال إلى زمن جديد. وفي روايتي «فياض» نجد روايتين, واحدة معاصرة والأخرى تراثية, الأولى تروي عن الزمن الراهن والأخرى تروي عن الزمن الماضي, زمن أسامة ابن منقذ الهاشمي.‏

في «فخ الأسماء» حاولت أن أحفر عميقاً لأصل إلى جذر الطاغية الشرقي, فوصلت إلى المماليك, تلك الظاهرة الغريبة في تاريخ العالم, إذ لا مثيل لها إلا في أرضنا, أن ترسل تجاراً يجيئونك بالعبيد, فتربيهم وتدربهم ليصبحوا سادة عليك!‏

في «صبوات ياسين» الظاهر بيبرس,دمغنا جميعاً ودمغ الحضارة الإسلامية حين جاء بمثقفي عصره ليكتبوا سيرته, وهي من أعجب السير في التاريخ, سيرة الحاكم ظلّ الله على الأرض, وقد عاش هذا الكتاب 800 عام وهو يصنع تاريخنا وثقافتنا حكاماً ومحكومين.‏

رواية «لو لم يكن اسمها فاطمة» حاولت من خلالها أن اصنع شيئاً جديداً, مخرج سينمائي عاطل عن العمل , يتعاقد مع إحدى الشركات التلفزيونية الفرنسية ليصنع أفلاماً وثائقية عن المدن المنسية أو الميتة في سوريا, وما أكثرها, من تدمر إلى الرصافة مروراً بإيبلا, يمضي إلى تلك المدن ليصورها وهو يسكن في مدينة عادية حيّة, لكنه يعيش في سراب غامض, ليكتشف في النهاية أن مدينته الحيّة قد ماتت, لأنها مدن تعيش كلها في قوانين وزمن ما قبل المدينة.‏

البعض حاول الخروج من العمارة البيبرسية إلى العمارة الغربية لكنهم تعجلوا كثيراً, والبعض الآخر حاول تقليد «جورج سيمنون» الذي كتب عدداً هائلاً من الروايات باللغة الفرنسية, روايات للتسلية وتمضية الوقت, روايات لا تطرح أسئلة, لكني لا أعرف كم نحن بحاجة لهذا النمط الروائي, إذا اعتبرناه نمطاً روائياً حقيقياً. لأنني اعتقد أننا في حضارتنا العربية الإسلامية بحاجة إلى إعادة طرح الأسئلة, والرواية إحدى المفاتيح التي تلج بنا عالم السؤال. وهذه المسألة شكلت هاجساً أو هماً أساسياً في تجربتي.‏

في السؤال عن الاهتمام بالتاريخ وقراءة التاريخ يقول خيري الذهبي:‏

الفكر العربي الإسلامي توقف تطوره منذ القرن الرابع الهجري وحتى الآن, لم يستطع أن يقدم شيئاً, حتى المذاهب الإسلامية التي كانت تجتهد وتتصارع فيما بينها توقفت عن التطور, وضعت في «فريزا».‏

أمّا بالنسبة للرواية فأعتقد أننا تخلينا منذ بدايات القرن العشرين عن النزعة الفانتازية في تراثنا السردي, والتحقنا بالمدرسة الواقعية حيث الزمن الخطي الغائي. وقد ساد هذا المنطق في الرواية العربية لعقود. وعندما كتبت روايتي «ملكوت البسطاء» ونشرتها عام 1975 كنت مخلصاً لثقافتي المزدوجة. لذلك جاءت رواية أصوات, وكل صوت فيها يُقدّم رؤية للعالم وتجربته في الحدث, وفي كل صوت من هذه الرواية نجد زمناً داخلياً متراصفاً, وهذه تقنية كانت متقدمة على صعيد الرواية السورية. وكنت عند كتابتها مهتماً بقراءة أزمة العالم الإسلامي العربي الذي اكتشف نفسه في خضم الحياة بعد انقطاع 15 قرناً عن العالم وحداثته وفضائه.‏

هل أنا مسكون بالتاريخ؟ ربما أكون حاولت قراءة الحاضر بالعودة إلى أدراج الماضي, فقدمت العام المنصرم وضمن مساهمة الهيئة العامة للكتاب في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية مجموعة كتب عن مدينة دمشق وتاريخها وحيواتها والصراعات التي دارت حولها, وأعتقد أنني أفدت بها الآخرين كما أفدت نفسي, راجياً أن يعرف الجيل الجديد شيئاً عن عالمهم, واقعهم, تاريخهم, مدينتهم, ولو معرفة صغيرة.‏

أما عن هواجس الجغرافيا فيتابع خيري الذهبي قائلاً:‏

بداية منع انتشار دولة المدينة ظهور الدولة الواحدة في بلاد الشام باستثناء المرحلة الأموية, ومع سقوط الدولة العثمانية بداية القرن العشرين انتعش حلم الدولة العربية الواحدة أو الشاملة, وهو حلم شامي إن صحّ التعبير, فالشاميون هم من فرضوا أنفسهم على الشريف حسين وفيما بعد على جمال عبد الناصر, فكانت رغبتهم بإقامة دولة واحدة أقوى من شروط تحقيق هذه الوحدة, فجاءت تلك المشاريع خارج المكان ورغم المكانة وربما لذلك فشلت هذه المشاريع التوحيدية والوحدوية.‏

لكننا في سوريا أحسسنا باستمرار أنّ الوطن الذي فُرض علينا هو وطن مؤقت, وطن مَعْبَرْ باتجاه الوطن المأمول الواحد, ومن هنا كان السوريون يخافون الحديث عن المكان باعتباره خيانة لحلمهم التوحيدي, بينما أنا نشأت في مصر, ولذلك لم أكن أخاف من المكان, بالعكس, تجد كل رواياتي ترتبط بقوة بالمكان, بل يتحوّل المكان فيها إلى عنصر أساسي في معمار الرواية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية