وقياساً على ذلك فإن البرهان على حلاوة الأنثى لا يتأتّى إلاّ عبر تذوّقها وتكرار تذوّقها إلى ما لا نهاية ...، على اعتبار أن كل فراغ من تجربة التذوّق يعيد صاحب التجربة إلى ما يشبه نقطة الصفر، أو إلى ما يشبه مساحة سلبية من الخواء، لا بدّ لها من تجاوز سلبيّتها لتخوض مجدّداً قسوة الامتلاء بزخم الحياة وعناء التطلّب الذي لا ينتهي. تطلّب كلّ شيء بما في ذلك تطلّب البرهان على حلاوة ما ثبتت حلاوته على مدار الأزمنة، وعلى ألسنة الحشود التي عبرت تاريخ الحياة.
تندرج رواية سلوى النعيمي في إطار ما صاروا يسمّونه سرد الجسد الأنثوي، وتنـزاح عنه عبر خيوط ليست خيوطاً ثانوية، خيوط تخرج بالمسرود عن السياق العام مسافة محسوبة وممسوكة. بحيث يؤدّي خروجها إلى اكتساب قدر من الخصوصية التي لا نعثر عليها عادة في روايات «سرد الجسد الأنثوي» وبحيث يؤدّي مسك الخيوط إلى البقاء تحت غطاء سرد الجسد، وهتكه والعبث به في الآن نفسه.
لقد عكفت المؤلّفة على الكتب التراثية المتعلّقة بالباه عند العرب، لتفكّ عنها خيوطاً تبدو صالحة لضفرها داخل أنساق يوميات العيش الذي صار خاصّاً بشرائح مختلفة من العرب، أو المثقّفين العرب، الذين بدا أنهم ابتكروا إيقاعاً يوميّاً خاصّاً بعيشهم في مدن أوربا. على طريقة تنسيل خيوط من سجّادة قديمة، أو كنـزة قديمة، لا يضيرها أن تُنسخ منها بعض خيوطها في سبيل حياكة سجّادة عصرية محلاّة بخيوط منسولة، متّفق على أنها كانت ضمن نسيج ثمين. ثمين لأنه قديم قبل أي اعتبار آخر، بحيث يتأتّى للمتعامل مع النسيج السردي الجديد أنه يتعامل مع نسيج ثمين لأنه يتضمّن خيوطاً ثمينة، أو خيوطاً ثبتت جودتها قروناً عديدة، بدليل صمودها أمام تتالي عوامل الزمن، وصولاً إلى قرننا الحالي.
ومن المستحسن في هذا المقام أن نشير إلى أمرين: يتعلّق الأول بما يشبه الظاهرة في الرواية العربية التي تندرج «برهان العسل» تحت غطائها. والظاهرة تتعلق بالآليّة التي تعتمدها روايات عربية لإنتاج أنساقها السردية وتنظيمها، فليست «برهان العسل» هي الوحيدة التي تستلّ خيوطاً، أو أنساقاً من الكتب التراثية، لضفرها مع أنساق تسرد الحياة اليومية المعاصرة، بقصد إحداث نوع من التفاعل النصّي بين الأنساق القديمة والجديدة. أو بقصد الإيحاء بأن ما يجري الآن يتأسّس على ما جرى من قبل، وأن ما نسرده اليوم له عمقه المتأصّل في عمق التراث الثقافي العربي. ويتعلّق الثاني بالقيمة المعرفية المتأتّية من مجرّد عمليّة الاطّلاع على الأنساق المنبوشة من كتب التراث.
ومن المناسب ألاّ نعبر فوق فكرة الجدوى المعرفيّة بسرعة، إذ من المفترض أن يكون لأيّ نصّ مقروء، مهما كان نوعه وحجمه، جدواه المعرفية بالمعنى التحصيلي الخالص. ولا بدّ من الإقرار بأن الروايات التي تنحو منحى النبش الممنهج، أو العشوائي، من التراث، لها جدواها المعرفية المشار إليها، في حال عزّت الأشكال المنشودة الأخرى من الجدوى.
زاوجت «برهان العسل» بين سرد الوقائع اليومية للحياة التي تعيشها شرائح ممّن صار يُطلق عليهم عرب أوربا، وبين الإتيان بأنساق مكتوبة مما انطوت عليه بعض الكتب التراثية من ممارسات جنسية تتسم تفاصيلها بمقادير من التطرّف في طبيعة التواصل الجنسي بجانبيه الطبيعي والشاذّ. يصل بعضها إلى إثارة القرف إذا اعتمدنا في معاينتها نظرتنا الشائعة التقليدية. وتظلّ في حدود المباح إذا اعتمدنا في النظر إليها مبدأ الحقّ الطبيعي للكائن الطبيعي في فعل ما يريد. وبعض أشكال تلك الممارسات يبدو متضمّناً مقادير من السلوكيّات المتضمّنة بدورها شيئاً من «العجائبية» التي يحلو لبعض الكتاب العرب إضافتها بقصد تنكيه الموادّ الإبداعية، وخصوصاً عندما نجد القارئ الغربي في رأس قائمة اهتماماتهم.
يمكننا الذهاب إلى أن الكاتبة عملت على أن يكتسي سرد الممارسة الجنسية المألوفة بنكهة مزدوجة، تراثية ومعاصرة، لقد أرادت مزج نكهتين متباينتين من الناحيتين الزمانية والمكانية، ومتوافقتين من ناحية التوجّه. على طريقة مزج نوعين من العطور، أو مزج نوعين من النبيذ، أحدهما محليّ معتّق جدّاً، والآخر أنتجه عربٌ بنكهة باريسية خاصّة، وذلك كله في سبيل الحصول على مقدار ممّا يسمّى «نزع الإلفة» عن أكثر الأمور شيوعاً وإلفة: الممارسة الجنسية والحياة اليومية المكرورة.
لا شكّ في أن من يمتلك الخبرة الجمالية الخاصّة بالإنتاج الفني، يرى في الوقائع اليومية التي يعيشها، مادّة مغرية لإعادة تشكيلها وإنتاجها عبر الفن بشتى أجناسه. ولا شكّ أيضاً في أن العرب المقيمين في مختلف مدن أوربا وسموا حياتهم اليومية هناك بإيقاعات تفتقر بهذه النسبة أو تلك إلى التناغم بمعناه الدقيق مع الإيقاع العام للعيش اليومي الذي يمارسه أبناء تلك البلدان، من غير أن يصل نفي التناغم إلى حدود التنافر بالضرورة. ومن الطبيعي أن يفتقر ذلك الإيقاع أيضاً إلى التناغم الذاتي الخاص بأولئك العرب،
فمن المعروف أنهم ذوو مشارب شتّى، وذوو توجّهات شتّى، وأن الظروف التي أدّت إلى وجودهم هناك تختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعات إلى أخرى، اختلافات حادّة في بعض الحالات، فهناك الهجرة شبه الطوعية في سبيل التحصيل العلمي والبحث عن فرص أفضل للعمل والعيش، وهناك الهاربون من الاضطهاد السياسي، أو من الخدمة الإلزامية في الوطن وما شابه ذلك على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.
لا نسعى الآن إلى معاينة أوضاع عرب أوربا، غير أن الميل المتعاظم إلى سرد الواقع اليومي الممجوج من كثرة ممارسته، وكثرة سرده، يستدعي أن نلتفت إلى هذه الظاهرة المتعاظمة في الرواية العربية المعاصرة، فقد صار سرد يوميات العيش اليومي المعتاد شائعاً إلى درجة تشكيل ظاهرة، وصار سرد الجسد الأنثوي ، أو بالأحرى، محظورات الجسد الأنثوي، شائعاً لدى الكاتبات الإناث إلى درجة تتجاوز الظاهرة وتضعها في خانة الابتذال. إذ لم تكتفِ الكاتبات العربيات بتعرية الجسد الأنثوي وفلش أسراره، بل عمد بعضهن إلى ما هو أكثر من تشريحه، وما هو أكثر من اعتصار تفاصيله لاستنـزاف أصغر قطراته «السريّة» شأناً، بغية جعلها جاذباً سرديّاً، يفترض أن يقبل عليها المتلقّي بشراهة، سواء كان عربياً أو غربيّاً. مع التذكير بنفي إمكانية إسقاط المتلقّي من حساب الكاتب، وكذلك إسقاطه ممّا يسمّى معادلة الإبداع بأركانها الثلاثة المتعارف عليها: «النص بوصفه رسالة، والكاتب بوصفه مرسلاً، والقارئ بوصفه متلقّياً أو مرسَلاً إليه». ولكن عندما يضع الكاتب المرسِل نصب عينيه متلقّياً ما، أو متلقّياً ذا مواصفات خاصّة محددة مسبقاً، وعندما يسعى خلال إنتاج عمله إلى مجرّد استرضاء ذلك المتلقّي، عندئذ يحدث خلل كبير في عمليّة الإبداع، يؤدّي غالباً إلى تقويض العملية من أساسها.
لا نستطيع الزعم بأن جديد سلوى النعيمي في «برهان العسل» تمثّل في مزج نوعين من البهارات من أجل بثّ الخصوصية الإبداعية في مادّتها السردية: بهارات متمتّعة بشيء من الندرة لأنها منبوشة من كتب التراث. وبهارات ذات نكهة باريسية أنتجها العيش اليومي لعرب أوربا كما سبقت الإشارة. إذ عمدت إلى مثل هذا المزج روايات عربية عديدة. ولكن من الممكن الذهاب إلى أن جديد «برهان العسل» ومأزقها في الآن نفسه أنَ مادّتها السردية مكوّنة أساساً من البهارات التي يُفترض أن تُضاف إلى الطعام لبثّ النكهة فيه، لا أن تكون بديلاً عن الطعام.
لم يكن ما ذُكر آنفاً الملمح الوحيد لنص سلوى النعيمي بوصفه نصّاً سرديّاً، فهو لم يكتفِ باندراجه ضمن الظاهرة، بل يمكن عدّه واحداً من عناوينها، ولكنه يمتاز أيضاً بأن فيه وجوهاً أخرى لظاهرة أخرى مستشرية في الرواية العربية، التي تسرد ما هو يوميّ ممجوج بسبب عجزها عن خلق مادة سردية فريدة منقطعة عن التشابه مع غيرها، وقادرة أيضاً على نسف الواقع بوصفه مرجعاً. والجانب الآخر للظاهرة متمثّل في الرواية التي تسعى إلى جسد الأنثى جاعلة إيّاه جاذبها السرديّ الوحيد، عندما تفتقر مادّتها السردية، وتفتقر تقنياتها إلى الحدّ الأدنى من القدرة على الجذب. نعم، يمكننا أن نعدّ «برهان العسل» تنويعاً في العزف على وتر الجسد الأنثوي، مع الإشارة إلى أن الثقافة الصينية القديمة، تطلق على ما لدى الأنثى تورية طريفة، تسميه «أوتار القيثارة». وللكاتبة – مثل الذي للكاتب- أن تعزف على وتر واحد، أو مجموعة أوتار إلى ما تشاء، غير أنّ لنا بعد ذلك كلّه أن نكرّر إطلاق السؤال بشأن جدوى التنويع على وتر الجسد الأنثوي، في حال جعله مجرّد مطيّة، مبذولة جدّاً للوصول إلى القارئ.