الأولى «شعراء وذئاب» وهي الأطول حيث تصل إلى 68 صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة 159 صفحة. أمّا الثانية (في أمنيات الشعراء العشاق 23 صفحة) والدراسة الثالثة (أصوات شعرية قديمة انتصرت للأنوثة 15 صفحة) ثمّ الرابعة (قراءة جديدة لقصيدة أراك عصي الدمع 17 صفحة) وأخيرا ( عن الوطن في الشعر العربي القديم 22 صفحة).
وسأقتصر في دراسة الكتاب على القسم الأول. «شعراء وذئاب». حيث يقدم لنا د. ثائر زين الدين رؤيته حول موقف بعض الشعراء من الذئاب التي التقوها وصاحبوها كما يدّعون، وإن تطابقت رؤاه مع غيره من النقاد فقد انفرد بتصوّرات أخرى قد تكون موضع بحث وحوار.
يرى الكاتب في ما جاء على ألسنة الشعراء من خلال احتكاكهم بما حولهم، إنّما هو شكل من أشكال الصراع بين الإنسان والبيئة التي تحيط به، ويرى الكاتب أن الذئب وهو جزء من بيئة الشاعر، كان له حضورٌ لافتٌ، تشابه التعامل معه لدى أكثر من شاعر، واختلف مع تبدّل العصر والبيئة الزمكانية عند آخرين.
بداية يطرح الكاتب بعض الأسئلة الهامة: هل كان حضور الذئب في الشعر عاديا كأحد مفردات البيئة؟ هل كان مادة يمتحن الشعراء قرائحهم في وصفها؟ هل كان مجرّد غرض من أغراض القصيدة؟ ويختم بسؤال هام له دلالته : هل تحوّل حضور الذئب من حضور مادي فيزيائي، إلى حضور رمزي؟ ويبدو أن رؤية الكاتب ستعتمد على السؤال الأخير بشكل لافت.
يستعرض الكاتب بكلّ التفاصيل الدقيقة بعض الشعراء الذي جعلوا من الذئب مادة في قصائدهم، فهذا المرقّش الأكبر يجد في الذئب ضيفا شجاعا أسبغ عليه صفاتٍ حسنةً كالشجاعة والفروسية، ولمّا عاد ظافرا جذلان بغنيمة منه، إنّما كان الشاعر يأمل أن يحققَ ما تصبو إليه نفسه من للعودة بحبيبته أسماء للديار جذلان سعيدا كهذا الذئب. فإسباغ الصفات الإنسانية على الذئب مردّها نفسي عاطفي.
ثمّ ينتقل للشاعر الشنفرى أحد الشعراء الصعاليك إذ انقطعت سبل المودة والرحمة بينه وبين بني أمّه، فآثر العيش بين وحوش الفلا فكانوا له أهلا، فالشنفرى المسلوخ عن أهله وقبيلته، كان ذئبه صورة عنه، حتى غدا أحد أفراد أهله. فما افتقده لدى قبيلته وجده لدى الوحش إذ يقول:
ولي دونكم أهلون: سيدٌ عملّسٌ وأرقطُ زهلولٌ وعرفاءُ جيألِ
فليس بعد ذلك من ضير إذا صاحبَ الذئبَ، وتقرّب من الوحش وغدا واحدا منهم. ويرى الكاتب بأنّ ذلك ردّة فعل من الشاعر على موقف عشيرته منه
ويتابع الكاتب الدراسة عن بقيّة الشعراء الذين اختارهم فيستحضر الشاعر حميد بن ثور الهلالي وذئبه الذي تحدث عنه بقصيدة كاملة، وفي تلك القصيدة يتوقع الكاتب بأن السرد فيها أخذ شكلا متقدّما عن غيره حينما خاطب نفسه مذكّرا بحضور شخص المؤلف في بعض القصص حيث يقول:
ونمتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ أكلتَ طعاما دونَه وهو جائع
ويرى د. زين الدين بأن الشاعر استخدم هذا الجنس الأدبي بعد زمنه بألف عام على الأقل. ويشير أيضًا إلى نقطة هامة حولَ موقف حميد من الذئب وهي أنّ ذئبه المتردد، إنّما يعكس ما يعاني منه الشاعر نفسه من تردد واضطراب في نفسيته، بالرغم من عدم وجود أدلّة حول ذلك.
وهناك من الشعراء كعب بن زهير، الفرزدق، والبحتري، وتأبط شر ا، مالك بن الريب وغيرهم.
وكلّهم جاؤوا بالذئب في قصائدهم، وبغض النظر عن التوافق أو الاختلاف، فإنّ ما يهمنا من تلك الدراسة ما قدمه الشاعر من رؤى مكرّرة كانت أم جديدة، وقد أوجز الكاتب ما رآه فيما يلي:
أولاً: حضور الذئب في شعرنا القديم جاء في البداية تشبيها سريعا، لم يستغرق أكثر من شطر أو بيت شعري، ضمّنه موقفه من ذئب بيئته. ثم ظهر بشكل أوسع، من خلال مدح أو رثاء تضمّن شيئا من حياة الذئب الذي قاسم الناس قسوة البادية. ثمّ تحوّل بعد ذلك إلى تخصيص الذئب بجزء أو مقطع من قصيدة طويلة، إلى أن خصّه بعضهم بقصيدة مستقلة.
ثانيا: يرى الكاتب أنّ أكثر الشعراء استعملوا أسلوب السرد والقص في الحديث عن ذئبهم، وكان البطل في أكثرها الشاعر نفسه فجاءت بضمير المتكلم، ومنهم ومن شارك بنفسه، في الحدث، ومنهم من جاءت حكايته بدور الراوي العليم ببواطن الأمور، إضافة لما قلناه عن قصيدة حميد بن ثور الهلالي.
ثالثا: يشير الكاتب إلى تفاوت مواهب الشعراء، ويقسم النظر إلى لوحة الذئب إلى أنها: إمّا غرض من أغراض الشعر العربي القديم، يدخل من باب الوصف, وإمّا عبارة عن صور سطحية تخفي تحتها صورا أعمق، تعود لطبيعة الشاعر من حيث حياته الاجتماعية والعاطفية، خاصة فيما يخص الشعراء الصعاليك المنبوذين منهم، أو المحبين الذين تخلت عنهم حبيباتهم وغدرن بهم.
رابعا: يؤكّد هنا الكاتب على أن وصف الذئب جاء من خلال معجم خاص تكرر سواء من حيث اللون أو الحركة أو الهزال.
خامسا: تحوّل بعض المفاهيم في النظر للذئب مع تقدم الزمان إلى مفاهيم أخرى كالفروسية والشجاعة والكرم، ويرى الكاتب أن قتل الذئب لدى البحتري تغيّر اجتماعي وحضاري طرأ على مفهوم الفروسية، فتمثّلت له فروسيته وبأسه بخصم عنيد هو الذئب .
سادسا: إبراز النزعة الإنسانية إبرازا واضحا من خلال تعامل الشاعر مع الذئب بحب أحيانا وشفقة، وتقديم المساعدة له.
إنّ الكاتب كما يبدو قد وضع منهجا متماسكا ، فجاء وفق تدرّج زمني للشعراء الذين جعلهم موضوع دراسته، وقد نجح إلى حد كبير في تسليط الضوء على ما أراد من هذه الدراسة مستعينا ببعض المراجع الهامة. ولكن ذلك لا يمنع من إبداء ما أعتقده ضروريا حول هذه الدراسة:
فبالرغم من أنّ الذئب هو جزء من البيئة الصحراوية التي كان الشعراء يقطنونها، إلاّ أنّ ما جاء في أشعارهم ليس بالضرورة أن يكون أمرًا واقعا بالفعل، ولعلّ أكثره جاء متخيّلاً، ويستشف ذلك بأن جميع الشعراء رأوا الذئب، وتحدثوا عنه، وكانوا لوحدهم لم يره أحد غيرهم. وجميعهم رأوا هذا الذئب في الليل على الأرجح، وبالتالي أرى أن وصف الذئب كان من ضمن وصف الطبيعة، أو الأطلال، أو الفرس جريا على عادة القدماء، واستمر ذلك فيما بعد، وبالتالي فإنني أوافق الكاتب بأن الذئب قد تحوّل من حضور مادي إلى حضور رمزي، وأؤكّد على الرمزية هنا من حيث طغيان النزعة الإنسانية تجاه الجوع الذي كان يعاني منه الكثيرون، فكان الذئب الجائع ، هو الرمز لمساعدة الفقراء والجياع. ثم هناك مسألة امتحان القرائح، فيحاول كل شاعر أن يمتحن ذاته أمام غيره، بوصف هذا الذئب في مغامرة متخيّلة أسوة بغيره.
ومهما يقال عن مصاحبة الذئب يظل وحشا يتربّص بأنعامهم، وبالتالي هم يتربّصون به. وليس أدل على ذلك من استغراب الكاتب أن يذبح الشاعر أسماء أفضلَ نوقِه ليقدّمها طعاما للذئب وعائلته.
إضافة لما سبق أرى أنّ تطوّر ذكر الذئب من شطرٍ إلى بيت شعري كامل، إلى بضعة أبيات، ثمّ تخصيص قصيدة كاملة لوصف الذئب، إنّما يدلّ على اقتباس الشعراء للفكرة، حتى لنجد بعض المعاني مكررة بذاتها عند أكثر من شاعر مع تغيير في الأسلوب فقط.
كلمة أخيرة، إنّ عنصر التشويق في هذه الدراسة لا يقل جاذبية وارتقاء في بقية الدراسات المنوّه عنها أعلاه، مما يغري بقراءتها والاستفادة منها.