كان اللغز بالمعنى الاستراتيجي ظاهراً منذ الانسحاب الأحادي لشارون من غزة في الـ 2003 و تكريساً لصيغة الانقسام بين فتح وحماس بما يوصل إلى إعادة الانتشار انسحاباً ليس نهائياً من غزة واستيطاناً نهائياً في الضفة وفك اللحام بين غزة وخريطة الطريق أو (خربطة الطريق) بما يقود إلى اللامكان حيث الأساس احتواء الصراعات لا إنهاؤها في غزة وغير غزة.
مصر تتكفل بردم الهوة بين الانسحاب الأحادي والخريطة المذكورة، بما يفرز أرضاً أكثر وعرباً أقل وهذا يعني مط الوقت وقتله في مشاريع السلام وأوراقه ومشاريعه وإداراته بهدف ابتلاع ما تبقى من أراض فلسطينية أو دفعاً للعبء الديمغرافي وتأجيل الحل النهائي إلى ما لا نهاية وبالتالي إيجاد وقائع غاية في الصعوبة والتعقيد قد لا يمكن إصلاحها أبداً أو تتطلب سنين مغمورة بالدماء خروجاً من غزة ودخولاً إليها.
التنازل هذا عن غزة قبضته إسرائيل على لسان بوش في رحلته الصحراوية الأخيرة وإعلانه التماهي التاريخي بين أميركا وإسرائيل والإقرار بيهودية الدولة الإسرائيلية وأمنها بما ينسف فلسطين من الجذور وتجاوزه الواضح لمبادرة السلام العربية الرصيد الأضعف المتبقي ومسح القرار التاريخي 194 بحق الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم بإعلانه عدم الاعتراف به.
أتعود الدولة الإسرائيلية براً إلى غزة بعدما قبضت هذه الأثمان وغطت بقذائف طائراتها ثلثي غزة في 4 آلاف غارة قامت بها ستون طائرة، بدأتها مقدسة صباح سبت وهو ما لم يسبق له مثيل منذ 1967 وكل ذلك تحت لحظ معتدلينا أم يعود معتدلو فلسطين فوق دباباتها لمزيد من سياسة المط والذم والدم؟.
ومتى نتيقن بأن إسرائيل لا تريد السلام ولا حتى التسويات؟.
فمن أين سيبدأ أوباما خريطة طريقه المخربطة والمغرقة بالدماء في الشرق الأوسط؟ أمن العراق بسحب قواته من هناك وإيران ومثلها دول معتدلة عربية في الانتظار؟.
هذا هو السؤال الامتحان الذي يقدم للرئيس الأميركي شمعة على طوله قبل دخوله البيت الأبيض وانطلاقاً من غزة الجبل المشتعل »بسيلان الرصاص« الذي لم يحظ بشمعة عربية تؤنس ظلمة حصاره؟.
ما هذه الأبعاد؟.
داخلياً هي ملحمة التسابق بين تشظيات الدم بالمعنى الوطني وتعثر الحبر الداخلي والعربي منذ الـ 2006 في ترميم الجروح والانشقاقات الحاصلة بين السلطة والمعارضة وخارجياً هي ملحمة الانشقاق العربي الآخر أو صداه أو سببه بين جناح الاعتدال في النظام العربي الذي تجاوز مضمون اعتداله المعلن بكثير وجناح الصمود والمجابهة والكرامة الذي دار العالم حوله ودار هو بدوره مرتبكاً حول الوقت والأحداث والدبلوماسية ودفع دماء سالت غزيرة وخنقته الضغوطات والمؤامرات قبل أن يباشر ربما بالنفاذ إلى الضوء.
أليس هو الجواب الذي يمكن أن يأتي مستنسخاً أو مطابقاً لزوايا المثلث الذي تشغل زواياه بغداد وبيروت وفلسطين ولربما تنضم العديد من العواصم الأخرى في الكلام عن السلطة والمعارضة أو الداخل والخارج أو في الكلام عن السياسة الأميركية الواقعة بين دولتين أو عهدين أو في لبنان الذي يتحضر لانتخابات يرتجى أن تحسم موقعه وسياساته ومثله فلسطين حيث يتحضر محمود عباس للانتخابات بحكومة منقسمة بينما يقوم إيهود أولمرت رئيس حكومة إسرائيل المستقيل والذي يحاكم بالفساد بينما يتسابق سياسيو العدو نحو البرلمان ورئاسة الحكومة بما يجعل دماء الغزاويين تسيل بالرصاص المذاب وكأنها أدوات انتخابية في الظاهر لكنها حتماً أكثر من ذلك بكثير.
ماذا حصل في غزة؟
تاريخياً منذ ثلاث سنوات بالتحديد أي في كانون الثاني 2006 حققت حماس انتصاراً ساحقاً في الانتخابات الديمقراطية التي جرت في غزة وباشرت حكومة حماس مهامها بعد شهر في ظل قطع الغرب مساعداته المباشرة لها ثم شنت إسرائيل في حزيران هجوماً واسعاً على غزة عقب اختطاف المقاتلين هناك جندياً إسرائيلياً هو جلعاد شاليط ودارت موجات عنف بين حركتي فتح وحماس على خلفية محادثات حول قيام حكومة موحدة بينهما في تشرين الثاني من العام نفسه راحت تقوى وتشتد حيناً لتخفف أحياناً أخرى أمام الهجمات الإسرائيلية التي تسببت بقتل المئات.
وبقيت غزة تترنح بين القتال الداخلي والهجوم الخارجي حتى 15 آذار، تاريخ الإعلان عن قيام حكومة الوحدة الوطنية الذي بقي متعثراً بين فتح وحماس على الرغم من إعلانات وقف إطلاق النار الخمسة التي كانت تخرق قبل جفاف الحبر الأمر الذي دفع بالجيش الإسرائيلي إلى اعتقال 33 وجهاً بارزاً من حماس في 24 أيار2007 أعقبه قيام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإعلان حالة الطوارئ وإقالة الحكومة كرد فعل سريعة وغير مبررة على اشتباكات 9-15 تموز والذي دفع الجناح العسكري لحماس إلى إعلان سيطرته التامة على قطاع غزة.
والسؤال الأكبر المطروح الآن: هل أن غزة هي معبر عرب الاعتدال نحو المزيد من نزول الدرج في قضايا العرب ومستقبله وفي مقدمتها قضية فلسطين أم إن غزة هي المعبر الذي منه سينفذ عرب الدم إلى طلوع الدرج ولو بمستوى نتوء غزة الجغرافي الذي لا يتجاوز الـ45 متراً عن سطح البحر؟ وبسؤال أكثر شجاعة هل يدفع الرصاص السائل الدم الفلسطيني إلى الجريان شمالاً بما يفتح المنطقة ككل على مزيد من الاستغراق في الدماء التي لا بد أن تمسح أو تثبت أو تغير سياسة بوش التي لم يشأ الرئيس الأميركي الجديد أن ينبس فيها ببنت شفة قبل ولوجه البيت الأبيض كي لا يكون لأميركا رئيسان؟.
في الإجابة لنقل أن غزة التي يمكن أن يسميها كاتب لبناني بالضاحية الجنوبية أو الجنوب اللبناني وهو مضطر في الكتابة عن غزة إلى تذكر ما حصل ويحصل في لبنان منذ تموز الـ 2006 هذه الغزة التي تتطلع مثل غيرها من جماهير العرب وحكامهم إلى عرب الدماء كما إلى حزب الله وصوت حسن نصر الله ونبرته التي تخفي رغبة عارمة في كشف الغطاء عن هذا الهوان الذي يغطي الوجه العربي المختزن لقسمات النصر والتحفز، هي ربما الحلقة الأضعف ليس بالضرورة ربما هي الحلقة الأقوى أو ستصير كذلك أو أن الأحراج يشعلها عود من ثقاب تماماً كالجنوب اللبناني الذي بقي هو الحلقة الأضعف وقوته في ضعفه مذ كان تحول وبدعم من سورية أولاً وإيران والعالم الخارج من الطريق الأميركي المنفرد الواحد والطاعن به إلى الحلقة الأصلب التي قويت على إسرائيل وانتصرت عليها في الـ 2000 والـ 2006 وكان لا بد من إدراك قوتها.
ماذا تعني غزة؟.
تعني الكثير بالمعنى التاريخي، وبكلمتين هي بلدة كنعانية قديمة سميت بأرض كنعان استوطنها العموريون ثم الكفتاريون ثم العناقيون كما استوطنها المديانيون والأدميون والعموريون قبل أن يهاجر إليها الكنعانيون من الجزيرة العربية ليبنوها على تل يرتفع 45 متراً عن سطح البحر قبل أكثر من 5500 عام.
وقد تبدل اسمها مع السنين فعرفها الكنعانيون بـ هزاني والآشوريون بـ عزاتي، بينما عرفها العبرانيون بـ عزة تتصل بمصر جنوباً وبلبنان شمالاً وتعرضت لسلسلة من المذابح على يد الإسرائيلين بعد احتلالهم لها عام 1965 مثل مجزرة غزة ومجزرة خان يونس ومجزرة رفح، هي باقية إذن ما بقي التاريخ ولو أن اسحق رابين تمنى الاستيقاظ يوماً ليجدها وقد غرقت في البحر.
وسواء سماها المصريون أو العرب المعتدلون غازاتو أو غاداتو أو سماها حكام (إسرائيل) مستنقع التماسيح أو «وكر الأفاعي» أو «الجبل البركاني» فإنها التلة المقاومة المشتعلة في زمن الانطفاء العربي احتفظت باسمها العربي الذي ما زالت تحمله حتى الآن وهذا يعني أنها قد تشكل حلقة الوصل بين الدم والدم العربي بمعناه الشعبي والديني بالرغم من المعازل الفلسطينية التي نصبها العدو الإسرائيلي بين النسيج الفلسطيني الواحد كما بالرغم من المعازل السياسية التي نصبتها الأنظمة العربية المرتاحة إلى وضعها وبدفع من الخارج بين عرب وعرب.
فلينطق أوباما ولو أصبح لأميركا رئيسيان!.
*كاتب وأستاذ الإعلام السياسي في الجامعة
اللبنانية.
Drnassim@Hotmail.Com
Nassim.Khoury@Gmail.com