بتصوري أن كل منا لديه جواب على هذا السؤال البسيط فالكتابة قد تكون نتيجة استعدادات موجودة لدى الانسان وناتجة عن بيئته أو تكون وليدة ظروف أو حالات عجز أيضاً قد تقودنا إلى الكتابة فأن نكتب يعني أننا غير قادرين على الفعل وأن صعوبات تواجهنا فنختار ردة الفعل بطريقة أخرى مختلفة للتعبير وتمنحنا فسحة للتفكير ومسافات أكبر.
أنا شخصياً عندما أعود إلى الظروف التي قادتني إلى الكتابة أرى أن الحافز الأول لكتاباتي كان الحرب ولم تكن الحرب كالتي خاضها نابليون في معركة فالمي والتي حكى عنها غوته من الجانب الألماني ورواها الكثير من الأدباء من الجانب الفرنسي بل الحرب الحقيقية هي كالتي تقع على المدنيين هذه الأيام وخاصة على الأطفال الصغار وليس لأنها لحظات تاريخية بل لأنها معاناة إنسانية عشتها أنا شخصياً ذقت فيها مرارة الجوع والخوف والبرد وأكثر ما أتذكر ما كنت أراه من نافذتي جنود الماريشال روميل القائد الألماني وهم يتسلقون جبال الألب بحثاً عن منفذ يؤدي إلى شمال إيطاليا والنمسا. لقد بقي هذا المنظر في ذاكرتي صورة لا تنسى كما أذكر أنه في السنوات التي تلت الحرب احتجت الكثير من لوازم الكتابة والقراءة فلم أكن أجد ما أكتب به أو أقرؤه بسبب النقص في الورق والأقلام والحبر, أول كلمات كتبتها كانت على الصفحة الخلفية لدفتر قسائم التموين ورسمتها بقلم الفحم.
لم يكن لدى الأطفال حرية اللعب خارج المنزل لأن الأراضي والبساتين التي كانت تحيط بمنزل جدتي كانت مزروعة بالألغام وأذكر أنه في إحدى نزهاتي وأنا طفل عند شاطئ البحر وجدت لافتة كتب عليها بالفرنسية والألمانية تحذر من الدخول إلى أراضٍ ممنوعة وقد رسم عليها جمجمة دلالة على الموت.
كانت متعتي الكبرى في الاستماع إلى حكايا جدتي التي كانت ماهرة في هذا المجال حينما تجلس لساعات طوال بعد الظهر تروي الحكايات الخيالية وعن الغابات والأبطال وقد بدا لي حينها أن كل ذلك يقع في القارة الإفريقية التي قدر لي أن أذهب إليها فيما بعد وأكتشف الغابة الحقيقية هناك، لكن الغريب أنها كانت خالية تقريباً من الحيوانات إلا عند حدود الكاميرون حيث وجدت مجموعة من الغوريللا تضرب على صدرها هناك في إفريقيا استقيت مواد رواياتي المستقبلية حيث كان أبي يعمل طبيباً في نيجيريا واكتسبت شخصية ثانية حالمة ومسحورة رافقتني في الواقع طوال حياتي، كما أني لا أنسى الكاتب السويدي داغرمان الذي كتب عن بلاده وآثار ما بعد الحرب ومعاناة المدنيين ولا أنسى مقطعاً يقول فيه: كيف يمكن لناأن نتصرف وكأن شيئاً لم يحدث في العالم.
ألا نرى من حولنا الذين يناضلون من أجل قهر الجوع والذين يعتبرون أن المهم هو ما يكسبوه في نهاية الشهر لسد قوتهم وهنا يقف الكاتب أمام تناقض جديد هو أنه يريد أن يكتب من أجل الجياع لكن من يقرأ هم أولئك المتخمون بالطعام.
على الكاتب أن يختار معسكره وأن يختار مسافاته، إن سيسرون ورابوليه وكاندروسيه وروسو ومدام دوستال وهوانغ سيوكيونغ أو عبد اللطيف لعابي أو ميلان كونديرا جميعهم اختاروا طريق المنفى أما أنا فيما عدا زمن الحرب فقد رفضت أن أكون حيث لا أجد حريتي.
وفي نهاية المطاف تشكلت لدي القناعة بأن الأدب يستطيع إثبات نفسه رغم كل الظروف ورغم العجز الذي يجد الأدباء أنفسهم حياله إن أرادوا تغيير العالم.
لا شيء أهم من الأدب وهذه القناعة فيها نوع من العظمة والقوة تتجاوز الأدباء في بعض الأحيان إذ كثيراً ما تحركهم وتبدلهم وتجعلهم يعيشون بانسجام مع طبيعة الأشياء، هذه القناعة هي شيء من الجديد والقديم في آن واحد كالهواء الذي لا يمكن لمسه وكالسحب والبحر الذي لا ينتهي.
هناك شيء ينبض كما في شعر جلال الدين الرومي مثلاً.
أو كالرعشة التي نحس بها عندما نقرأ نصوصاً جميلة أنتجتها البشرية كخطاب زعيم الهنود الحمر في القرن التاسع عشر الذي وجهه إلى رئيس الولايات المتحدة عندما طلب منه أن يعطيه أرضاً لقومه قائلاً له: «أيمكن أن نكون إخوة».