تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نبالة قدم في حضور الرعب

رسم بالكلمات
الاثنين 5-1-2009م
د.نصر مشعل

دوي فظيع بدد هدوء الوقت الصقيل، ورتابة ظهيرة السادس من تشرين الأول، فيما صوت أشبه باللهاث راح يئز في رأسي من حين إلى آخر..

لماذا لا يمكننا وصف الكوارث أحياناً، ولا يمكن أن ننقلها إلى مخيلة من نحدثه بمثل ذلك الرعب الذي نراه؟‏

لي صديق يفند هذه الظاهرة بكلمة واحدة.. إنها المفاجأة.. وحدها المفاجأة التي تتعثر بك تتركك صريع العجز.. فلا تسمح لسلسلة الأحداث أن تتمركز في تلافيف دماغك.. حد عجزك أن تصف معركة مثلاً تدور أمامك، وأنت الطفل بسنواتك الثماني ترى إلى الحياة بمنظار هندسي بديع..‏

دوي فظيع مادت له الأرض، وفجأة ألسنة النيران تعانق السحاب.. إنه اليوم الأول من حرب تشرين التحريرية.. أن يرى الإنسان بعينه كيف تحيل القذائف منشآت نفطية بأكملها إلى جحيم في ثانية فإنما يرى مغولية الإنسان.‏

اختطفني أحد الشبان وهرب بي إلى أقرب خندق، ومن داخله اختلطت مشاهد المعركة مع ذاك اللهاث في رأسي والذي راح يرتفع شيئاً فشيئاً.. جرت أمام عيني معركة حقيقية.. معركة كما كنا نرسمها.. فها هي طائرة تنفجر مخلفة وراءها خصلاً متشظية من غيوم وحشيتها.. وتلك أخرى تهرب باتجاه الغرب... وهذا طيار إسرائيلي هبط أمام أعيننا فسارع رجال الدفاع المدني وقبضوا عليه..‏

حملني الشاب بعد هدوء المعركة، وطار بي تحت سواد الدخان، فيما امتزج نحيب الأطفال والنساء باللهاث الذي ما فتئ ينسرب من بين أسمال مخاوفي السميكة، الأطفال والنساء والشيوخ يتراكضون كأرانب عبر السهب الشرقي باتجاه دغلات العاصي.. ربما كتب على قريتي أن تشهد كوارث الحرب لجوارها إلى مصفاة التكرير، وهناك التقيت بأهلي، شعور رخي مفعم بالطمأنينة وأنا ألتجئ إلى حضن أمي، شعرت لحظتئذ كم أنا قصي وبمنأى عن ويلات البشرية وحروبها، هذا الشعور مازال يراودني حتى اليوم.. (حضن أمي أمتن القلاع).‏

صراخ... بكاء.. عويل وراحت الخزانات المنفجرة تزخ وابل شظاياها الهائلة فوق بيوتنا... ورأيت بعيني كيف تساقطت جدران اللبن تحت ثقل القذائف البركانية الملتهبة.. ولكن ماهذا اللهاث الغريب في رأسي الآخذ بالضجيج، يارب! ووسط هذا الذعر لمحتها، لمحت شبح امرأة تتشح بالسواد تركض عبر الوعر الشمالي باتجاهنا.. تتعثر حيناً.. فتسقط ثم تجاهد وتقف وتتابع الركض، فيتهدج لهاثها في أذني.. يتقطع ويعلو وينخفض كلما سقطت وكلما وقفت.. من هذه المرأة؟‏

قبل أن تصل إلينا ببضع خطوات عرفتها.. فصرخت: (جدتي) وفي لحظة وصولها هوت أمامنا... قفز اللهاث من أذني ورأيته يخترق حنجرتها الناشفة.. كنت أرتعش ساعتئذ، وعندما أذكر ماحدث تراني أرتعش فزعاً من نبالة اللحظة... نبالة قدمي جدتي... يومها نظرت أمي إلى قدميها، وصاحت باكية: «جاي حفيانة».‏

وإذ بقدميها أشبه بقنفذين متورمين سوداوين لكثرة الأشواك المنغرزة ينفجر منهما غدران دموية تخضبت مع الأسفلت المبطن لأسفل القدمين!!.‏

بيد أن جدتي الجميلة ألقت نظرة عابرة على قدميها الذبيحتين وكأن القدمين ليستا قدميها!! ثم سألت أمي المنتحبة بحنجرة ناشفة مبحوحة «لم أنتبه أنني خرجت حافية... هل أنتم بخير؟‏

كل ماحدث ببساطة لحظتها أن جدتي التي علمت بقصف المصفاة هرعت خوفاً ، ونسيت أن تنتعل خفيها، ووجدت نفسها تركض فوق الاسفلت المتوهج، ثم عبرت المدينة ،وأتت راكضة لمسافة خمسة عشر كيلو متراً، ولم تنتبه للاسفلت الحار الذي ألهب قدميها... ولم تشعر بالأشواك التي أدمت قدميها... وروحي!!‏

رعب الحرب لايساوي شيئاً أمام رعب القدم... هل ثمة رعب كهذا الرعب؟ كان أبي يقول: «كل تجاوز للقمة هو رعب... أن تتجاوز قمة التوحش هو رعب.. أن تتجاوز قمة الفرح هو رعب.. وأن تتجاوز قمة النبالة هو رعب، أن تأتي بشىء يفوق منطق الإنسان هو رعب... فما أن تماثلت جدتي للشفاء من نبالة قدميها، حتى رافقتها لزيارة خالي في السجن.. كان ابنها الوحيد ويقال إنه ارتكب جريمة قتل... «عفواً. لاترتعبوا... فالمثل الذي يقول ثلثا المرء لخاله غير صحيح.. غير صحيح إطلاقاً فالمرء كله لخاله».‏

رأيته من خلف الشباك الحديدية يصرخ، ويندفع نحو أمه... أيعقل أنه ينشد الحرية أم هو مثلي يرى في صدر أمه المكان الأكثر أماناً في العالم؟ لم أذكر عما تحدثا... ولكنني رأيتها تلصق وتدفع وجهها في الشبك الحديدي لكأنها تبغي قضمه... وتفتيته كي تنفذ إليه... كانت تبكي.... وبكيت معها... وفجأة حدثت لحظة الرعب.. كانت تفصل بين الزائرين والسجناء ستارة سوداء تمر بين الحاجزين الشبكيين حين تنتهي الزيارة. وما إن رأتها جدتي تمر أمامها حتى دفعت يديها بكل قوتها لتوقفها... ولكن قبضتها اصطدمت بالحاجز البراني، وضاعت في زمهرير الخواء والانكسار... فتراجعت.وعبت من هواء السجن لكأنها تعب من أنفاسه ومدت يدها لتأخذ بيدي وإذ بها تنزف!! رباه... هل كتب على هذه العجوز عداوة الدم؟ قلت لها: جرحت يدك يا جدتي!‏

تأملتها بنظرة عابرة فقط، وتابعنا مسيرنا صامتين..‏

لم يكن الرعب من تلك اللحظة بالذات، بل سيتكرر مشهد الرعب ذاك كلما جاءت جدتي لزيارة خالي.. إذ رافقتها كل فترة الحرب لزيارته، وفي كل مرة تمر الستارة السوداء كانت تندفع بقبضتها لتوقفها، فتنزف أصابعها، ومن ذات المكان دون أن تشعر بالألم!!‏

منذ خمسة أعوام ماتت جدتي، ومات معها الحبق.. ماتت كما تمنت طوال حياتها أن تموت.. ماتت وهي جالسة بين أحفادها تقص عليهم حكايا الزمن الآفل وخيبات العمر..‏

عاندت أن أودعها وداعي الأخير لحظة فك عقدة الكفن، وقفت إلى جانب خالي نفسه، وما إن فك الحفار العقدة.. حتى رأيتها تشخص بعينين حالمتين جميلتين إلى ابنها، وعندما وضعوا شطائح الحجارة على القبر رأيتها تشق الكفن، وتمد يدها إليه.. ذات اليد النازفة..ارتطمت بالحجارة، فتساقطت حسرات الزمن على لجاة قلبها، ونزفت من ذات المكان..ولكن لم يكن لون الدم أحمر هذه المرة..كان أبيض..أصمّ غير مفهوم..كالموت.‏

توفي خالي منذ عشرين يوماً، وما إن انتهيت من كتابة هذه القصة وقرأتها على والدتي حتى قالت لي:‏

أنت لم تكن تتخيل..هي بالفعل مدت يديها إليه .سألتها فزعاً: «ماما..ماذا تقولين..هي لم تمد يدها أبداً حين دفنوها..أنا كتبت ذلك من باب تهويل الموت والمحبة» فتنهدت أمي وقالت لي:‏

ما كتبته حدث بالفعل، فقبل أن يموت خالك بيومين جاءتني جدتك في الحلم وقالت لي لقد «حفرت لأخيك قبراً بجانبي فأرسليه إلى جواري» ومات فعلاً بعد ثلاثة أيام، وقبل دفنه بساعة حدثت حفار القبور عن الحلم، فقال لي: هذا محال..إذ لا يوجد إلى جانب قبرها أي مكان شاغر ولكنه نزل عند رغبتي الملحة بأن يستطلع المكان، وكانت مفاجأة العمر الأكثر رعباً..فإلى جوار قبرها كان هناك قبر بالفعل!!..ولكن الأشواك والحشائش غمرته فانطمست معالمه كي لا يهتدي إليه أحد.‏

ما إن رأى القبر محفوراً حتى شهق برعب قائلاً: (لا أذكر أنني حفرت قبراً هنا) وأغمي عليه.‏

من حفره إذاً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية