وإنما تسليماً بأن الحرب هي الحرب , وأن الحرب يجسدها المصطلح العسكري وليس السياسي . إذا أردنا ذلك , قلنا إن السؤال المطروح الآن , وعلى أعتاب المؤتمر الدولي هو التالي : ما هو « الحال» الذي تتجه إليه «الحالة السورية » من بين الصيغ التالية :
- أماماً سرْ !!
- مكانك راوحْ !!
- خلفاً دُرْ !!
دعونا نقول بدايةً إننا استخدمنا كلمتي « الحال » و « الحالة » لنستبعدَ بشكل تلقائي كلمة « الأزمة « التي تنطوي على تزييف للصورة . فنحنُ نواجه عملياً حرباً لا أزمة . وشتان ما بين « الحرب » و « الأزمة » . وإذا كانت هناك مظاهر للأزمة سواء كانت ناتجة عن الحرب أو نابعة من أسباب ذاتية , فإن هذه المظاهر لا يمكن أن تبيح لنا الحديث عن « الأزمة » بينما نحن عملياً في « حالة حرب » . فالحديث عن الأزمة في زمن الحرب هو نوع من الترف الذي لا يسمح به الموقف , أو نوع من الهرب من استحقاقات الحرب .
وإذا كان هناك من يشك فيما نقول من المصمّمين على استخدام كلمة « الأزمة», وكأنها لازمةٌ لا بدّ منها , فإننا نطرحُ عليه السؤالَ البسيط : أيّ أزمة تلك التي استدعت « تحالف » أو « ائتلاف » ثمانين دولة بقيادة الولايات المتحدة وفق الإقرار الأميركي بحجم الائتلاف , للعمل متكاتفين متضامنين كل بما يملك من أدوات الصراع القابلة للاستثمار سواءً كانت دبلوماسية أو مالية أو اقتصادية أو إعلامية أو لوجستية أو عسكرية بهدف الإمساك بسورية من تلابيبها , وتدميرها وتفتيتها, والإجهاز على ما ادّخرته من قدرات دفاعية باتت تؤرق « إسرائيل » خصوصاً ؟ .
هل يتمُّ هذا حُبّاً بسورية من قبل « أصدقاء سورية » المزعومين أم مقتاً لها من قبل أعدائها الفعليين ؟ .
قبل الإجابة على هذا السؤال يحسن بنا اجتزاء فقرة من تقرير رفعته المخابرات البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي في اجتماعه الأخير مطالبة بإدراج ما أسمته بالجناح العسكري لحزب الله على قائمة الإرهاب , وفيه تورد بين مبررات هذا الطلب اتهام حزب الله بأنه يقوم بـ « تقويض الأمن الإقليمي للاتحاد الأوروبي ولمصالحه في الشرق الأوسط من خلال مشاركة الحزب في تقديم التدريب والمشورة والدعم اللوجستي والقتال الواسع لقوات النظام السوري » . فأبسط ما يعنيه هذا الكلام أن الحرب التي يشنها « ائتلاف الثمانين » على سورية تخدم من بين ما تخدم « الأمن الإقليمي للاتحاد الأوروبي ولمصالحه في الشرق الأوسط » , فهي قطعاً ليست من أجل الشعب السوري ولا من أجل إيجاد نظام أكثر ديموقراطية في سورية . أما الارتباط بين الأمن الإقليمي للاتحاد الأوروبي ومصالحه وبين أمن إسرائيل ومصالحها فأمرٌ ليس مجهولاً منذ أن كان وعد بلفور عام 1917 أحد مستلزمات هذا الأمن وأحد أشكال تحقيق هذه المصالح . وما ينطبق على الاتحاد الأوروبي ينطبق على الحسابات الأمريكية .
إن التاريخ الإنساني على امتداده لم يعرف تحالف ثمانين دولة سواءً من أجل إصلاح دولة أو من أجل اجتياح دولة أو من أجل الإفساد في أراضي دولة , أو حتى من أجل محو دولة من على وجه الأرض . فنحن أمام ظاهرة أو حالة هي الأولى من نوعها في التاريخ الإنساني . وهي الأولى من نوعها فيما يتعلق بطبيعة الأسلحة أو الأدوات المستخدمة , بحيث يمكن القول بأن الأسلحة المستخدمة اليوم بدءاً من حبوب الهلوسة , ومروراً بالتضليل الإعلامي الذي تمارسه الفضائيات , والفتاوى الدينية الملفقة التي يطلقها شيوخ مارقون , والاستخدام الواسع لأجهزة الاتصال المتطورة المرتبطة بالأقمار الصناعية , وأساليب الرصد والتشويش الإلكتروني, والحصار الاقتصادي الخانق , والضغط السياسي والدبلوماسي , وصولاً إلى أسلحة القتل والتدمير وتجنيد الإرهاب الدولي , تدلُّ جميعها على « حرب شاملة » تشن بأساليب « الحرب غير المباشرة » . وربما اعتقد البعض أن هذه الأساليب أقل فتكاً من أساليب « الحرب المباشرة » أو « التقليدية » , لكنها في الواقع أشدّ فتكاً . ورغم مرور سنتين وشهرين على بدء الشق المعلن من هذه الحرب إلا أننا نميل إلى الاعتقاد بأن هناك من خفايا هذه الحرب التي لم يكشف النقاب عنها بعد ما تشيب لهوله سودُ النواصي .
من بين خفايا هذه الحرب التي لم يكشف النقاب عن تفاصيلها بعد تلك المتعلقة بمرحلة الإعداد لها , والسابقة لإعطاء إشارة « أماماً سر !! » . فالقول بأن هذه العملية بدأت تلقائياً في 15 آذار 2011 مواكبة أو متابعة لأحداث ما أسمي بالربيع العربي , هو قول يفتقر إلى الدقة , ولا يرتكز إلى اليقين . وفرضية النشأة الذاتية للظروف التي سبقت إطلاق الأمر « أماماً سرْ !! » هي فرضية غير صحيحة يقيناً . فمن الثابت أنه كان هناك تحضير مسبق , ومن المؤكد أن هذا التحضير كانت له أشكال متعددة , ولم يكن إطلاقاً من النوع البسيط الذي يمكن افتراضه في مثل هذه الحالات , بل كان بالغ التعقيد ويستند إلى أدوات هُيّئت مسبقاً منذ سنوات وسنوات .
إنّ أهمّ ما يمكن قوله عن مرحلة « أماماً سرْ !! » , وما استلزمته من تصعيد متواتر متصاعد لأداء القوى المستثمرة , أن الخصوم اضطروا في مرحلة معيّنة في النصف الثاني من العام 2011 إلى استقدام إرهابيي القاعدة من كلّ مكان لإسناد القوة التي كانوا قد شكلوها على الأرض سواء بالاستناد إلى عناصر داخلية أو ضباط أجانب أو مرتزقة بعد أن فشلت تلك القوة في تحقيق الهدف . ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن قرار زجّ إرهابيي القاعدة في سورية كان قد جرى اتخاذه منذ وقت مبكر , بدلالة تصفية أسامة بن لادن في مطلع أيار 2011 , وهي عملية قد تفسّر بأن بن لادن طلب منه الانخراط في الحرب لصالح « الائتلاف « ولكنه أبى فتم التخلص منه بالقتل . لكن « الائتلاف » كان بحاجة أولاً إلى استثمار القاعدة في السيطرة على الوضع في ليبيا قبل الانتقال إلى سورية بدءاً من تشرين الأول 2011 . ثم إن هناك حقيقة أخرى لا بد من وضعها في الاعتبار , وهي أن تنظيم القاعدة زمن بن لادن لم يكن بحجم هذا التنظيم الآن , حيث جرى تجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين لصالحه بتمويل قطري سعودي . وكان هؤلاء بحاجة إلى فترة تدريب قبل زجهم في سورية . ومن هنا نستطيع أن نفهم بأنه في أعقاب جنيف حزيران 2012 كان رهان « ائتلاف الثمانين « على دور عناصر القاعدة المتنامية هو أساس الرهان الذي أدى إلى التسويف والمماطلة في وضع جنيف موضع التنفيذ .
وخلال هذه المرحلة , نجح غولُ القاعدة الذي جرى تعزيزه إلى أقصى الحدود, في ابتلاع تشكيلات ما أسموه « الجيش الحر » , وبات أيضاً يتغوّلُ في أقطار أخرى غير سورية . وصار هذا الغول يمثل مشكلة مستقبلية لصانعيه ولكل أطراف « ائتلاف الثمانين » وآخرين . ولم يعد هؤلاء يخفون مخاوفهم من هذا الغول الذي صنعوه بأيديهم . فهزيمة هذا الغول في سورية لن تعني نهاية تغوّله في أماكن أخرى , بما في ذلك في دول الغرب الاستعماري .
هل يعني ذلك أن المتخوّفين من غول الإرهاب الذي صنعوه بأنفسهم لأنفسهم, يمكن أن يغيّروا سياستهم دفعة واحدة , لاعتماد صيغة « خلفاً دُرْ !! » بعد أن بات واضحاً أن منطق « أماماً سرْ !! » يواجه مأزقاً فعلياً في الميدان , وأن المزيد من تجنيد الإرهابيين يعني خلق المزيد من المخاطر بالنسبة للفاعلين من أصحاب ائتلاف الثمانين ؟ .
في الواقع أن بين منطق « أماماً سرْ !! » الذي بات يواجه مأزقه الميداني والسياسي , وبين منطق « خلفاً دُرْ !! » الذي يعني الإقرار بالفشل , أي الهزيمة, هناك منطق ثالث يسود الآن ومن المرجح أن يستمر لبعض الوقت خلال الفترة القادمة , هو منطق « مكانك راوحْ !! » . وبوسعنا القول بأن المعطيات حتى هذه اللحظة ترجح أن المؤتمر الدولي في جنيف – متى عقد - لن يقود إلى ترتيب نهائي يعني أن « ائتلاف الثمانين « سيتبنى منطق « خلفاً دُرْ !! » موقفاً اللعب بشكل كلي, وإنما ستكون هناك مرحلة من المماطلة والتسويف تماثل تلك التي أعقبت جنيف. لكن هذه المماطلة ستكون في هذه المرة على قاعدة « مكانك راوح !! » لأنه لم يعد قادراً على تجاوز هذا الوضع من المراوحة في المكان .