تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بين قوسي الشريك والعدو

إضاءات
الثلاثاء 25-9-2018
سعد القاسم

بكلمات الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن دور العلامة عبد الحميد بن باديس في التصدي لمحاولة المحتل الفرنسي طمس مكونات الشخصية الوطنية الجزائرية،

يبدأ فيلم (ابن باديس)، وبكلمات تقرير أمني فرنسي يعتبر ابن باديس: «أباً ل(حركات التمرد) بين عامي 1945 و1954، وملهما لأفكار حركات جبهات التحرر الوطني»، يُختتم الفيلم. وبين هاتين الشهادتين يسير المحور الأساسي للأحداث التي يتناولها.‏

الفيلم الذي عرض في دمشق أواخر الأسبوع الماضي، بحضورٍ رسمي وثقافي وفني جزائري وسوري، حمل توقيع المخرج الفلسطيني - السوري المبدع باسل الخطيب، وحمل معه أسلوبه السينمائي المتميز الذي يعطي للصورة السينمائية دوراً أساسياً في سرد الأحداث والمقولات، بما يرقى بأسلوب التعبير عن الحدث والفكرة، ويرقى في الوقت ذاته بالمشهد البصري ليضعه في مصاف الإبداع التشكيلي، فيشعر المشاهد وكأنه أمام شريط مستمر من اللوحات الفنية البارعة، الثرية بالحكايات. وهذا التوازن البارع الخلاّق بين الشكل والفكرة هو بعض ما أعطى التاريخ الإبداعي الثري لباسل الخطيب ذلك التقدير الواسع الذي أباح لوزارة الثقافة الجزائرية أن توكل إليه مهمة إخراج أول فيلم سينمائي جزائري بهذا المستوى العالي على جهتي الموضوع والكلفة الإنتاجية والتي تضمنت بناء مدينة سينمائية تم فيها إعادة تشييد بعض الأماكن التي جرت فيها أحداث الفيلم، ولم تعد موجودة اليوم، وذلك بالاستعانة بمصمم الديكور القدير الشاب وائل أبو عياش ابن مصمم الديكور المخضرم العريق حسان أبو عياش.‏

تقرر إنتاج فيلم (ابن باديس) ضمن خطة احتفالات (قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015) وهي المدينة التي شهدت ولادته وعمله ورحيله، و إحدى ثلاث مدن جزائرية استوطن فيها الفرنسيون قبل تحرر الجزائر، وهي تضم اليوم واحداً من أهم صروح العمارة الحديثة وهي جامعة منتوري التي صممها المعماري البرازيلي الشهير أوسكار نيماير. وتم تكليف الشاعر رابح ظريف بكتابة السيناريو الذي تطلب منه، ومن باقي صنّاع العمل، الاطلاع على أكثر من 150 مرجعاً، من بينها وثائق الشرطة الفرنسية وبعض الرسائل التي كانت تصل العلامة من أصدقائه في بلدان العالم، إلا أن وفرة المعلومات والوثائق لم تجعل العمل أسهل بل على العكس من ذلك تماما، فحياة ابن باديس رغم قصرها (1889-1940) كانت حافلة بالأحداث الشخصية والعامة بما يجعل موضوع الانتقاء أكثر صعوبة، وأكثر احتمالاً للتعرض للنقد، خاصة أن شخصيته، ومواقفه الفكرية والحياتية، ومفاهيمه الإصلاحية الدينية، وسياسته تجاه المحتل الفرنسي، كل ذلك كان، وما يزال، مجالاً لسجال طويل، ومواقف متباينة، وقد آثر الكاتب التأكيد على ما رآه الأكثر جوهرية في حياة ابن باديس وهو فهمه لدور التعليم والمعرفة، وخاصة فيما يخص اللغة العربية، بحفظ الهوية الوطنية الجزائرية، ورد محاولات إذابتها في الهوية الفرنسية للمحتل الغاصب.‏

تبدأ أحداث الفيلم على خطين متوازيين تدور أحداث الأول بينهما في محيط ابن باديس (بيته ومدينته وجامعة الزيتونة في تونس حيث درس واطلع على نشاط الحركة الوطنية التونسية) ، وتدور أحداث الخط الثاني في منزل بالريف المجاور المتضور بؤساً، تقطنه طفلة ساق المحتلون شقيقها الذي كان يرعاها للتجنيد الإجباري، مع والدها المنهمك في رعاية أمها المشلولة بسبب رصاصة أطلقها جنود الاحتلال إثر مقاومتها الشجاعة لمحاولتهم الاعتداء عليها. ويلتقي الخطان عندما يشاهد ابن باديس الطفلة وهي تجمع البقايا المعدنية لتبيعها في سوق المدينة وتعيل عائلتها، فيتكفل بنفقات العائلة ويدفع بالفتاة إلى درب التعليم، وفي وقت لاحق يعود الابن من الحرب مصاباً، وداعياً أهل القرية للثورة ضد المحتل، فيما يبدو كنتيجة لإخفاق المحاولات السلمية في استعادة الحقوق الوطنية المشروعة.‏

الواقعية السحرية التي وُصِفَت بها أعمال باسل الخطيب تجلت هنا في المشاهد الرائعة للجزائر:عمارة وطبيعة وثياب، مستعيدة من الذاكرة لوحات الفنان الفرنسي ألفونس إتيان دينيه (1861- 1929)، وفيما بعد: نصر الدين دينييه إثر اعتناقه الدين الإسلامي، الذي أحب الجزائر وأمضى شطراً طويلاً من عمره فيها وأوصى أن يدفن في مدينة بوسعادة على بعد 242 كم جنوب العاصمة التي اشترى فيها أرضاً لتكون مثواه الأخير. وبعد أن نالت الجزائر استقلالها، افتتحت على اسمه عام 1993 متحفاً في بوسعادة كُرّس لأعماله، قام بنهبه متطرفون ظلاميون بعد سنتين.‏

أضاء فيلم رابح وباسل أماكن هامة لا من سيرة ابن باديس فحسب، وإنما من وقائع مرحلة سياسية مليئة بالأحداث والمواقف التي مهدت للثورة باهظة التضحية التي منحت الجزائر استقلالها. وكان الممثلون على درجة عالية من البراعة والإقناع، وخاصة يوسف سحيري الذي أدى الدور الرئيسي. وتستحضر لهجة الفيلم من ذاكرتي تعليق الأديب يوسف إدريس على مسرحية كويتية باللهجة المحكية بأنه يفضل عدم معرفة جزء من الحوار مقابل إحساسه بقوة انتماء المسرحية لبيئتها، فمع صعوبة بعض الحوار في (ابن باديس) لاستخدام اللهجة المحكية - كما تقتضي المصداقية- فإن ذلك الاستخدام، وتلك المصداقية، قد منح الفيلم نكهة جزائرية يعشقها كل السوريين، وخاصة أولئك الذين شهدوا المراحل الأخيرة من كفاح الجزائريين الدامي لأجل استقلال وطنهم..‏

حين كان النشيد الوطني الجزائري، وما يزال، يثير في نفوسهم ذات الأحاسيس الحارة التي يثيرها نشيدهم الوطني.‏

www.facebook.com/saad.alkassem

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية