تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حول تعريف ماهية الفضيلة

ملحق ثقافي
2018/9/25
حاتم حميد محسن

الحوار الرئيسي يبدأ عندما يتوجه سقراط بالسؤال إلى بروتوغوراس ليعرف ماذا يعلّم تلاميذه؟ بروتوغوراس يعلن أنه يعلّم طلابه السياسة وكيفية إدارة الشؤون الشخصية. لكن سقراط يسأل حول ما إذا كان هذا حقاً موضوعاً يمكن تعلّمه. يجيب بروتوغوراس بحديث مطول عن خلق العالم. الفضيلة، حقاً، يمكن تعلمّها لأن الأنظمة السياسية تأسست على أساس أن جميع المواطنين يمكن أن يحوزوا على الفضيلة.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

كذلك، وبنفس الطريقة، ترتكز العدالة الجنائية على فكرة أن الناس يمكن إصلاحهم- أي يتعلمون كيف يكونوا فضلاء. سقراط يحوّل موضوع النقاش للتركيز الدقيق على ماهية الفضيلة بالضبط. هل هي شيء واحد أم عدة أشياء؟ لكن هذا الخط من الجدال لم يتقدم كثيراً قبل أن ينهار الحوار كلياً. سقراط وبروتوغوراس يتجادلان حول أشياء فرعية مثل كم يجب أن يكون طول الإجابة على أسئلة كل منهما : سقراط يفضل أجوبة قصيرة وأسئلة سريعة بينما بروتوغوراس يرغب بأجوبة مطولة . متحدثون آخرون يتدخلون في النقاش ويقنعون الاثنين للعودة إلى موضوع النقاش الأصلي. بروتوغوراس يسأل سقراط أولاً، ثم يأتي الدور لاحقاً إلى سقراط.‏

ينتهز بروتوغوراس الفرصة للتحول في الموضوع إلى قصيدة لسيمنديس. وحين أشار إلى التناقض في القصيدة، راح يتحدى سقراط للإجابة. سقراط كان ذكياً في جداله، هو يفسر القصيدة كرد فعل لادّعاء بيتاكوس، Pittacus، بأنه من الصعب أن تكون خيّراً. حسب تفسير سقراط، أن القصيدة تزعم بأنه من الصعب أن تكون خيّراً، لكنه من المستحيل أن تكون خيّراً في كل الاوقات، لأن الناس مجبرون على السلوك السيء بفعل أقدار حتمية. سقراط عندئذ يذهب بتفصيل أكثر: الحظ السيء لا يعني الفقر أو نقص الشيء، وإنما هو الجهل. يرى سقراط أن الشر هو نقص المعرفة، لأنه من المستحيل التصرف بشكل خاطئ مع وجود المعرفة بالخير. يستمر سقراط في متابعة هذا الخط من التفكير ليسأل بروتوغوراس بعض الأسئلة. يرى سقراط أن الخير الوحيد هو المتعة، ارتكاب فعل الشر هو اختيار غير واعٍ للألم مقابل المتعة. ما نحتاج إليه هو طريقة يمكن بها أن نحدد بوضوح الشكل الأكثر متعة للفعل في أي موقف. كونه نال موافقة بروتوغوراس لهذا الموقف، يجادل سقراط حينئذ بأن الجُبن هو الفشل في الخوف من الأشياء الصحيحة، والخوف من الأشياء التي يجب ألا يُخشى منها. الشجاعة، هي لذلك، شكل من المعرفة. كان بروتوغوراس اقتنع سلفاً أن الحكمة والاعتدال والعدالة والقداسة كلها تأتي تحت اسم واحد هو الفضيلة. سقراط أثبت أن الشجاعة مرادفة لهذه المسميات، وأن الفضيلة ذاتها هي فقط اسم آخر للمعرفة. إذا كانت الفضيلة معرفة، عندئذ يمكن تعلمّها. وهكذا، كل من بروتوغوراس وسقراط ينهيان النقاش بالضد من موقفهما في بداية الحوار، الحوار ينتهي بشكوى سقراط من ضياعه لأحد المواعيد.‏

السياق التاريخي‏

من بين حوارات أفلاطون كان حوار بروتوغوراس الذي يبدو فيه شيء من الغرابة كونه وُجد قبل مولد أفلاطون وفي فترة لايزال فيها سقراط شاباً. سقراط حوكم واُعدم عام 399، أفلاطون وُلد قبل ذلك بثلاثة عقود في عام 427. حوار بروتوغوراس وُجد قبل بداية الحرب بين إسبارطا وأثينا حوالي عام 433. هذه الحرب كانت كارثية لأثينا. فبعد قتال مرير ومكلف اعترفت أثينا بهزيمتها أمام خصمها اللدود إسبارطا. في إعادة البناء السياسي اللاحق جرى استبدال نظام أثينا الديمقراطي بنظام أوليغارتي (نظام الثلاثين طاغية)، غير أن هذا النظام الجديد أطيح به فوراً وتمت إعادة تأسيس النظام الديمقراطي.‏

في أعقاب هذا التغيير في الأنظمة السياسية جرت محاكمة واتهام سقراط في عام 399. بالنسبة إلى قرّاء بروتوغاروس الأوائل وكما هم قرّاء اليوم، يُعتبر حوار بروتوغوراس عملاً تاريخياً يصف أحداثاً وقعت في أثينا التي تغيرت دراماتيكياً في الأربعين أو الخمسين سنة اللاحقة. في عام 433، كانت أثينا في أوج نفوذها السياسي، كونها قادت تحالفاً من المدن اليونانية في هزيمتها للغزو الفارسي. نظامها السياسي كان الأكثر ديمقراطية من أي مجتمع (لو تجاهلنا استبعاده للمرأة واستعماله للعبيد). كل المواطنين الأحرار شاركوا في العملية السياسية الأثينية، القرارات تُتخذ جماعياً بدون أن يتوسطها نظام تمثيلي للحكومة. عندما كتب أفلاطون الحوار كانت أثينا بعيدة عن هذه الذروة.‏

نقاش سقراط وبروتوغوراس للفضيلة السياسية يكتسب أهمية جديدة، حالما يؤخذ هذا السياق التاريخي بالحساب. السؤال عن كيفية اكتساب الفضيلة كان بالتأكيد أكثر إلحاحاً لأفلاطون - الذي رأى أستاذه يُحاكم ويُعدم- بدلاً من أن يكون لأجل المشاهدين المتجمعين في مقر هيبوس للاستماع لسقراط وبروتوغوراس. كل من سقراط وبروتوغوراس، ومع كل الاختلافات بينهما، يعرضان رؤى متفائلة عن منافع التعليم في الأنظمة السياسية والاجتماعية. بالنسبة إلى بروتوغوراس، كل الناس لهم حقوق وواجبات متساوية في المشاركة بعملية صنع القرار. بالنسبة إلى سقراط، (في نهاية الحوار) السلوك الأخلاقي يمكن تعليمه. أي منهما لم يعرض رؤية تشاؤمية عن طموحات وإمكانية التفكير الفلسفي في المجتمع. لكن، الحوار ذاته لا يلبي هذه الآمال المتفائلة. إذا كان سقراط نجح في إقناع بروتوغوراس بموقفه، فإن بروتوغوراس وافق على ذلك فقط بتحفظ وبمزاج سيئ. هو ربما محق في شكوكه، لأن العديد من حجج سقراط لا تبدو متماسكة. ونفس الشيء، سقراط ذاته يلخص الحوار بالقول إن جميع الحجج تحتاج لتبدأ مرة أخرى، أي أنهما وصلا ليس إلى النهاية وإنما إلى البداية. بعد حوالي مائة صفحة من الفلسفة الثقيلة، يعرض أفلاطون فقط استنتاجات غير مؤكدة، لدرجة أن القارئ يجب أن يكون غير واثق من قبوله لها بأي مقدار، هذه ليست نهاية متفائلة.‏

السياق الفلسفي‏

حوار بروتوغوراس، اُعتبر، كما ذكرنا أعلاه حواراً قديماً. وكما في معظم الحوارات القديمة الأخرى، إنه يبدأ بتعريف ماهية الفضيلة، لكنه يفشل في التوصل إلى أي استنتاج منهجي وتعريفي. في الحقيقة، إن تقليد طريقة الفيلسوف اليوناني بروديكوس prodicus – الذي يحاول انتزاع تعريفات دقيقة للكلمات – يشير إلى أن هذا المشروع التعريفي هو خاطئ من البداية. هل التوصل إلى تعريف دقيق للفضيلة يساعد المرء في التصرف بفضيلة؟ ربما ليس كذلك، رغم اعتقاد سقراط بأنه من المستحيل التصرف بسوء عند معرفة الخير.‏

في الحقيقة، إن إثارة أسئلة الفضيلة في هذا الشكل التعريفي يشير فقط إلى مدى غرابة هذه التحقيقات الفلسفية، هذا يعني أن أفلاطون ينوي عمل شيء ما آخر في هذه الحوارات إلى جانب الوصول إلى تعاريف دقيقة. جزئياً، هذه الحوارات يمكن اعتبارها كإزالة للافتراضات المسبقة الزائفة وتفكيك للآراء المطروحة، إنها عملية تنظيف فكري تام مطلوب القيام به قبل البدء بالبناء العظيم للجمهورية.‏

لكن قراءة هذه الحوارات القديمة كأداء لمثل هذه الوظيفة السلبية كلياً أيضاً تبدو عملية اختزالية. بالتأكيد هناك تحطيم كبير للعقائد الزائفة في هذه الحوارات، بلا شك سقراط يستخدم قوة السؤال والإجابة بطريقة مؤثرة. غير أن هاتين العمليتين ليستا متشابهتين. إذا كان سقراط يستخدم طريقة الديالكتيك لمهاجمة حجج خصومه، فهو أيضاً يستخدم هذه الطريقة لصياغة معتقداته الخاصة. المشارك له في الحوار ليس مجرد معارض قوي، وإنما يمكن أن يكون مساعداً. في مكان ما من الحوار يقتبس سقراط قول هوميروس «عندما يفكر اثنان مجتمعان، فان أحدهما يرى قبل الآخر». التفكير مجتمعاً يمكن أن يسير أسرع بكثير من التفكير الأحادي. هذه الطريقة ليست مفيدة فقط للتفكير السلبي – لتحديد ونقد ضعف الحجج- وإنما يمكن أيضاً أن تُستخدم للوصول إلى أسئلة أكثر حدة تقود إلى استنتاجات حاسمة. إذا كانت الحوارات القديمة لا توفر دائماً استنتاجات، فإنها تؤسس عملية ممتازة وفعالة يمكن بواسطتها الوصول إلى الاستنتاجات. هذا بحد ذاته نوع من الاستنتاج. لذلك فإن الأسئلة المثارة في بروتوغوراس (ما هي الفضيلة وكيف تُكتسب؟) هي أجوبة، رغم أن هذه الأجوبة لا تظهر بنفس الشكل كالأسئلة.‏

قراءة هذه الحوارات هي تعليم بطرق التفكير، وهذه الطرق من التفكير، كما يرى سقراط، ستقود للمعرفة الحقيقية. الاعتقاد المقتبس أعلاه (إننا لا نستطيع التصرف بسوء بوجود المعرفة) سوف لن يكون غريباً. لكي نصل للمعرفة المرادفة للفضيلة، يجب علينا التفكير مجتمعين، نطرح أسئلة في كل خطوة على الطريق. الفكر الفلسفي يجب عندئذ أن يحتوي على هذين المظهرين، إنه يجب أن يتضمن أصواتاً تختبر وتستنطق بقوة اتجاه النقاش في جميع المسائل. هذه الأسئلة هي التي تقود إلى استنتاجات. طريقة التعلّم بالحفظ والتذكر لا يمكنها تعليمنا كيفية اكتساب الفضيلة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية