كنت كقطعة خشب، مسَّها الضُّرُّ، وعتَّم قلبَها الأذى منذ أمدٍ، فلم تعد تشعر بنسغ الحياة الذي تبثه أنشطة وفعاليات وبشر كهؤلاء... لدرجة أخذت أتذكر أين أنا ومن جاء بي إلى هذا المكان لأسمع أيقونة الحب هذه تبث في حطبي اليابس شيئاً ما يشبه الحياة... وحالما وصلت الجملة الغنائية «مش رح ننساكم.....» تبادر للذهن عبر الموروث الاضطهادي للمواويل الشجية من أيام المستعمرين الغزاة، وماورثناها عِتاباً وعَتابا حزينة لكثرة الغربة والاغتراب والترحال، حسبت بأنه سيكمل الجملة «ياللي ظلمتنونا»، وإذ به يغني الجملة كاملة ويتصرف بها قائلاً:» مش رح ننساكم يا الحَبَّيْتُونا»، وهكذا فهمتُ تصاريف القدر التي أتت بي مصادفة، والطاقة الإيجابية التي وقعت في إسارها، على أنه فعل من قبل المغنِّي لبثِّ الحُبِّ، وعدم الإتيان بأي ذكر للكراهية أو الظلم أو الحزن.
إنَّها كلمة سحر من حرفين.... بهية كالحياة.. هي وحدها كلمة من حرفين، لو نجح هذا الذي حُمِّلَ أماناتِ السَّماوات والأرضين في حَملها، لما قَتَلَ أخاه، ولما سالت قطرةُ حقد أو كراهية على وجه هذا الأديم.. كلمة وحرفان.. لو ننجح، ولو لوقت قليل من دهور الأبدية، في إنتاج وإنجاز ثقافة الحب، لما كان ثمَّة دمعة في عين محزون، أو حزن في مقلة يتيم، أو شر في مهجة قاتل، أو ضغينة في سريرة إنسان.. وإذا كانت الحاء في علوم اللسانيات واللغة تفيد إبداء الشعور من البرد، بالتالي تحيل لحاجة دفء، وإذا كانت الباء تحيلنا إلى قلقلة لابد من طمأنينة بموجبها فيتلاقى الدفء بالطمأنينة في لباب النفوس القلقة المحتاجة للدفء، وحبات القلوب المشوقة للطمأنينة ولتكون هذه الكلمة أعظم ما احتوته «الضَّاد» على الإطلاق.. معنى ومبنى وجوَّانيَّة ولئن كان المهموس للحاء ينسرب إلى شغاف الشغاف ونسغ النسغ ونخاع النخاع وروح الرُّوح من مشاعر وإحساسات ودواخل للإنسان، فإنَّ الباء تأتي لتمنحها من عطفها وأبوتها وحنانها الكثير لتغدو حاء وباء يتغنى برمزيتها الفلاسفة والصُّوفيُّون، العارفون والماجدون، الأصفياء والأولياء، الكتاب والأدباء والشعراء الصالحون والمريدون والأشقياء، بل وليسعى لابتكارها أو محاكاتها قلبُ نايٍ أو بُحَّة عود أو حنين قانون.
قيل في الأثر كما أتى في موروث كلام كبار الشخصيات من الأنبياء والقديسين والعرافين أن الله محبة.. والمحبَّة أشمل معنى ومبنى وكوناً من الحب، لكنما هو أسُّها وأساسها.. ولو تفرَّدت الزهرة بالعبير، ولم تمنحه للنسيم، لأثبتت أنانيتها، ولو حبست النحلة الرحيق عن الآخرين لما أحبت إلا نفسها.. المحبة تكاملُ وتواشُجُ وانصياعُ الأنا للجمع الذي يستوجب محبة الجميع لأنفسهم ولبعضهم بعضاً.. ثم، ما ضرَّنا لو أفشينا عبارات المحبة والحب فيما بيننا، وتمثلناها حقيقة كلُّ ابتداءً من نفسه، إذاً لما كان ثمة متشرد أو بائس أو بخيل أو متسول من أدنى عبارات التسول وضوحاً، انتهاء بتسول محبة من يبغضك. عندما نحب أنفسنا نحب الآخرين، وعندما نحب الآخرين نرى أنفسنا بالآخرين فعلاً وارتداداً وانعكاساً يؤمن استدامة المحبة والحب.. ولئن قال الشاعر الحكيم الفيلسوف «أبو العلاء»: «فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي / سحائبُ ليس تنتظم البلادا» لقد قال «الحلاج» العاشق المتفرد المتمرد: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا / نحن روحان حللنا بدنا», فسيسعفنا براق المحبة إلى نشيد الانشاد الإنساني الكوني الذي اختطه وابتدعه ديناً وديدناً وعقيدة «ابن عربي»: «أدينُ بدين الحُبِّ أنَّى توجَّهتْ ركائبُهُ / فالحُبُّ ديني وإيماني..», طوبى لصانعي المحبة والحب فهم أحباب الله، طوبى للأحباب والمحبين والعشاق والعاشقين، طوبى للأنقياء فهم صانعو المحبة والحب.
«ولئلّا تظنّ أنني أكرهك، سأحني لك رأسي كما يفعل الأولاد المذنبون، وفي انتظار قدومك عشيّة عيد القربان، سأدهن عنقي بزيت القدّاس لأسهل عليك وعلى نفسي مرور السكين».