الأمر الثاني المتعلق بموضوع التدخل هو أن الإدارات الأميركية تتخذ من أي ذريعة كمدخل لهذا التدخل ولعل ادعاء الرغبة بنشر الديمقراطية أحد أهم هذه الأشكال المقنعة والشواهد على ذلك باتت كثيرة.
الخرق الأميركي الأخير لأجواء فنزويلا يصب في خانة الضغط والابتزاز والترهيب، واللافت في الموضوع أن من تدعي بمحاربة الإرهاب هي أكثر الدول ترهيباً وإرعاباً لأمن الشعوب واستقرارها ولعل استعراضاً سريعاً للتدخلات الأميركية في العالم منذ عام 1945 وحتى الآن يدلل على أن ترهيب الدول الأخرى هو نهج ثابت لدى الإدارات الأميركية ويمكن أن نستدل من التدخل الأميركي في شؤون المنطقة العربية كأفضل قرين على الإرهاب الأميركي المنظم والمتواصل بذات الوقت كما يمكن أن نستدل من التدخل الأميركي في شؤون إيران الداخلية وسعيها إلى تأجيج التوتر والاقتتال فيه كأبرز دليل على السعي الأميركي المتواصل في تعكير صفو الشعوب واستقرارها.
ومما لاشك فيه أن فنزويلا البوليفارية تشكل حصناً متقدماً لمقاومة مشاريع الهيمنة الأميركية وخاصة في قارة أميركا اللاتينية ولذلك لم توفر الإدارات الأميركية جهداً لإفشال الثورة البوليفارية بدءاً من المحاولات الفاشلة لإسقاط أوغو شافيز عن رئاسة فنزويلا أكثر من مرة وانتهاء بمحاولات عزل كراكاس والضغوط الممارسة عليها بهذا الشأن. واشنطن تعتبر أن المد البوليفاري في القارة اللاتينية بزعامة كراكاس أمر غير مقبول في الحديقة الخلفية لها ولذلك تحتج تحت أي مسميات للتدخل في شؤون دول هذه القارة وخاصة الدول المناوئة لها كبوليفيا وكوبا المجاورة، ولعل التوقيع على اتفاق لإقامة سبع قواعد عسكرية أميركية في كولومبيا أكبر خطوة لتهديد أمن دول القارة واستقرارها إضافة إلى محاولات تنظيم الانقلابات في هذ الدول دون النظر إلى مصالح هذه الشعوب ورغباتها وبعيداً عن أسس الديمقراطية التي تدعي واشنطن أنها من أهم بناتها.
الطلعات الجوية التي نفذتها طائرة عسكرية أميركية فوق الأجواء الفنزويلية لمدة 34 دقيقة هي خطوة إضافية على طريق الابتزاز والضغط الذي قابلته كراكاس كما هي عادتها بالرفض والاستعداد للرد على هذه الانتهاكات المرفوضة في القوانين والمواثيق الدولية، وأمر الرئيس شافيز جهازه الدفاعي الجوي باعتراض الطائرة وإبعادها عن المجال الجوي لبلاده وقال في اجتماع وزاري إن هذه الطلعات ماهي إلا عمليات استفزازية وخرق للسيادة الوطنية انطلاقاً من قواعد في الكاريبي وكولومبيا ومن يدري فقد تدعي الولايات المتحدة أن خطوات التأميم التي يقوم بها شافيز لمصلحة بناء اقتصاد وطني مقتدر تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي وحالة إرهابية تتطلب التدخل العسكري المباشر خاصة أن تاريخ البيت الأبيض في الادعاء والتلفيق زاخر ومليء بالقصص والخيالات البعيدة عن المنطق والواقع.
والسؤال المطروح الآن لماذا هذا التأجيج الأميركي الآن في هذا التوقيت، وهل هو مجرد استفزاز واستعراض للقوة أم إنه يندرج ضمن خانة النية في التصعيد؟
وهناك من يرى أن هذه الخطوة محاولة لاسترداد ماء الوجه بعد الإخفاقات الأميركية المتكررة عبر سياستها الخارجية في دول هذه القارة وخاصة بعد وضوح ابتعاد كل من البرازيل والأرجنتين أيضاً ونأيهما عن السياسة الأميركية.
والمستغرب في الأمر أن إدارة أوباما - التي عقدت عليها آمال كبيرة لاتكف عن الحديث عن انتهاج أسلوب مغاير لسلفه جورج بوش ولكن المتتبع لمجمل السياسة الأميركية وتطبيقاتها على أرض الواقع يرى أن لاشيء تغير في هذه السياسة سوى أنها تتخذ في بعض الملفات مواقف هادئة ولكنها في الخفاء في وجه واحد لسياسة الإدارات الأميركية المتعاقبة ولعل الملف الفنزويلي أحد أبرز الملفات التي تتخذ منها واشنطن سياسات ثابتة!