كالمرحلة الحالية التي بلغت حد تهديد الحكومة التركية بسحب سفيرها من إسرائيل إن لم تعتذر هذه الأخيرة عن الإهانة التي وجهتها للسفير التركي وخرجت فيها عن أدنى حدود اللياقة الدبلوماسية عندما استدعى نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون السفير التركي واستقبله بطريقة غاية في الإخلال بالأعراف والتقاليد الدبلوماسية.
وتدعي إسرائيل بأن أسباب هذا التطور تعود إلى ظهور ما أسمته خارجيتها بحالات لا سامية تؤجج العداء ضد اليهود في الإعلام التركي, وكأنها تطلب من هذا الإعلام تبني ثقافتها العنصرية فيغطي على إرهابها, ويتهم العرب بالإرهاب وهم منه براء, فهل هذا هو السبب الذي تعزو إسرائيل إليه الخلافات الحادة مع تركيا أم أن هناك أسباباً بعيدة لا تفصح عنها..؟.
السجال السياسي الدائر على أشده الآن بين تركيا وإسرائيل لم يبدأ على خلفية مسلسل تلفزيوني عرضه تلفزيون للمعارضة التركية وكشف صوراً عن الإرهاب الإسرائيلي وهو حق له يتصل بحرية التعبير وكشف الحقائق, بل تكشف للعلن منذ الحرب الغادرة على غزة قبل عام, ووقوف القادة الأتراك ضد هذه الحرب وكشفهم للخديعة الكبرى التي مارستها إسرائيل بحق تركيا حول التظاهر بالتمسك بمفاوضات السلام والدخول عملياً في الحرب وتوجيه انتقاداتهم للسياسة الإسرائيلية والتي كان منها قول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً ((إن تركيا لن تبقى صامتة إزاء الرفض الإسرائيلي القرارات الشرعية الدولية وهي لا تقبل باستمرار الانتهاكات الجوية والبحرية الإسرائيلية للبنان, وتدعو إلى التعامل بعدالة مع مسألة الانتشار النووي وتحذير إسرائيل وانتقادها نووياً لامتلاكها السلاح النووي)).
فإثر خروج إسرائيل لحرب غزة, أماط أردوغان اللثام عن هذه الخديعة عندما تحدث عن لقاء جمعه عشية الحرب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أيهود أولمرت تم فيه الاتفاق على الانتقال بالمفاوضات السورية- الإسرائيلية غير المباشرة إلى مرحلة المفاوضات المباشرة, لكن المفاجأة كانت في خروج حكومة أولمرت في اليوم التالي إلى حرب على قطاع غزة ارتكبت فيها إسرائيل أبشع جرائم الحرب واستخدمت فيها أسلحة الدمار الشامل ضد شعب أعزل يدافع عن حريته وحقه في الاستقلال والوجود, لتتبين حقيقة أن ليس السلام هو ما تهتم به إسرائيل ويشغل سياستها, بل هو الحرب والحرب فقط, إضافة إلى أنهالا تجد حرجاً حتى في استغلال المفاوضات غطاء للحرب غير مكترثة بما سيقال عنها من أنها تمارس سياسة الكذب وتخدع الآخرين.
وكان أكثر ما استدعى الغضب التركي من هذه السياسة هو استخفافها الفاضح بوزن تركيا ورعايتها للمفاوضات ودورها الساعي إلى إيجاد حل عادل للصراع العربي- الإسرائيلي, وترحيب العرب والعالم بهذا الدور لنزاهته وعدالته, وتمسك سورية به ودعوتها لدعمه أوروبياً ودولياً لجهة أنه دور برهن على مصداقيته وجهوده خلافاً لأدوار كثيرة افتقرت إلى عناصر الجدية والحياد, الأمر الذي لم يترك أمام أردوغان من خيار في ضوء ما امتاز به من ثبات على المبادئ وصدق الموقف والصراحة والشفافية, سوى كشف السياسة الإسرائيلية وفضح أكاذيبها وتبيان مخاطرها على الاستقرار الاقليمي والسلم الدولي.
والخطأ الفادح الذي ارتكبته إسرائيل في تعاملها مع تركيا يكمن في عدم معرفتها بطبيعة الشعب التركي والسياسة الجديدة التي تنتهجها حكومته بقيادة الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء أردوغان.
فإسرائيل وقد اعتادت على أن تكون كالطفل المدلل على أميركا والغرب, فتفعل ما تشاء وتبتز وتكذب ولاتجد منهم سوى المحاباة والصمت المزري, ظنت أن الأمر نفسه يمكن أن يكون مقبولاً من تركيا فتكذب عليها وتحاول خداعها وتغمض تركيا الطرف.
إن إسرائيل لا تريد لدولة في المنطقة أن تكون دولة إقليمية وتمتلك دوراً إقليمياً وتقول كلمة الحق في ممارسات إسرائيل العدوانية وسلوكها المعادي للسلام, وهذا يشكل بدوره أحد الأسباب البعيدة لمحاولة إسرائيل تفجير الخلافات مع تركيا مستهدفة بذلك تشويه مكانة ودور تركيا, كما فعلت مع إيران في مواجهتها المكشوفة مع دورها, إذ تبذل كل ما لديها من جهود لئلا تكون إيران دولة إقليمية تتصدى لإسرائيل, والقاسم المشترك بين الحالتين يكمن في كون كلٍ من تركيا وإيران تمارسان دوراً متصدياً للعدوانية الإسرائيلية ومناصر لقضايا العدل والحق العربي.
وهكذا تتضح حقيقة أن الأسباب الحقيقية لتفجر الخلاف التركي- الإسرائيلي تكمن فقط في تأثير السياسة التركية وتوجهاتها وسوء السياسة الإسرائيلية, وخوف إسرائيل العميق من أن يستمر هذا التأثير مع امتداد الزمن.