(ليس هناك فصل واضح بين الحقيقي واللاحقيقي وبين الخطأ والصواب هنالك أشياء لا تكون بالضرورة صحيحة أو خاطئة فمن الممكن لشيء أن يكون خطأ وصوابا) هكذا بدأ هارولد بينتر خطابه أمام لجنة جائزة نوبل للآداب التي حاز عليها للعام 2005 ويتابع: اعتقد أن القول الحتمي يمتلك أهميته ومعناه على أرض الواقع بهدف اكتشاف الحقيقة وبصفتي مؤلفا فأنا ما زلت موافقا على ذلك ولكني كمواطن يتوجب علي السؤال التالي ما الخطأ, وما الصواب? وأقول: إنك لن تجد الحقيقة على المسرح ولا يمكن إدراكها تماما والبحث عنها يحتاج الى التحري والتنقيب وهذا البحث هو مهمتنا وواجبنا فمعظم الأوقات نقع عليها بالمصادفة وقد نصطدم بها في الظلام وأحيانا نشعر أنها أصبحت بين أيدينا للحظة ثم لا تلبث أن تنزلق من بين أصابعنا وتتلاشى.
وتبقى اللغة في الفن مسألة فيها التباس كبير إنها رمال متحركة بركة متجمدة يمكن أن تنكسر تحت قدميك كمؤلف بين لحظة وأخرى لكن كما قلت لكم البحث عن الحقيقة لا يمكن أن يتوقف أبدا ولا يجوز ولا يصح تأجيله.
إن معظم رجال السياسة يعتقدون بأن مقوماتنا لا تأبه بالحقيقة لكنها تهتم فقط بالسلطة ويجدون أنه للحفاظ على سلطتهم يجب أن يبقى الناس جاهلين عن رؤية الحقيقة فيما يتعلق بحياتهم الخاصة لذا ترانا نعيش وسط نسيج ضخم من الأكاذيب التي يريدوننا أن نتغذى بها.
كلنا يعلم أن الدليل المقدم لتبرير غزو العراق على أنه يمتلك ترسانة أسلحة خطيرة تهدد العالم لم يكن صحيحا, قالوا لنا إن العراق له علاقة بالقاعدة وبالتالي هو مسؤول عن جزء من إرهاب أيلول 2001 في نيويورك وقالوا إن العراق يهدد أمن العالم ثم تبين أن ذلك ليس صحيحا وأن الحقيقة مختلفة تماما.
نعم لأن الحقيقة تتعلق بطريقة فهم الولايات المتحدة للعب دورها في العالم وكيفية تجسيد هذا الدور, ولاستعراض ما يجري الآن علينا العودة الى تاريخ السياسة الخارجية الأميركي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية, أؤكد لكم أن الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال هذه الفترة لم يؤت على ذكرها إلا ظاهريا ولم يتم توثيقها ولا التحقق منها ولا مقارنتها بجرائم أخرى, أرى أنه من المهم التطرق الى هذه المسألة لأن وضع العالم الحالي يتوقف على جلاء الحقيقة, فالأعمال التي قامت بها الولايات المتحدة أفهمت العالم بأنها أصدرت مرسوما يجيز لها أن تفعل ما تريد على هذه الأرض, الولايات المتحدة هي التي دعمت في كثير من الحالات الديكتاتوريات العسكرية اليمينية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية في اندونيسيا, هاييتي, الأوروغواي, الفلبين, غواتيمالا, سلفادور, وطبعا تشيلي ولن يكون بمقدور الولايات المتحدة أن تكفر عما سببته من رعب في تشيلي عام ,1973 لا يمكن نسيانه ترى ألا يعزي موت مئات الآلاف في هذه البلدان الى سياسة أميركا, الجواب نعم وقد أدرج ذلك في حساب السياسة الأميركية لكنكم لا تعرفون عن ذلك شيئا وكأنه لم يحدث حتى أثناء وقوع تلك المآسي ولم يكن يلقى أي اهتمام.
فأين هو حسنا الأخلاقي? وهل بقي لدينا شيء منه? والى ماذا يرمي هذا الكلام? لنعد الى مصطلح نادرا ما يستخدم هذه الأيام الضمير ليس الضمير المتعلق بنا بشكل خاص ولكن بمسؤوليتنا حيال تصرفات الآخرين هل مات كل هذا?
إن غزو العراق هو عمل قطاع طرق, هو ارهاب دولة واستخفاف مطلق بمفهوم القانون الدولي, وقرار هذا الغزو هو قرار تعسفي مستوحى من سلسلة أكاذيب لا حدود لها وتداول صارخ لوسائل الاعلام على أن هذا التدخل يهدف الى تعزيز الوجود العسكري والاقتصادي الأميركي في الشرق الأوسط لكن فشلت جميع تبريراتهم بأنهم جاؤوا محررين..انظروا الى غوانتانامو.. مئات المعتقلين هناك دون توجيه تهم لهم إنها جرائم فاضحة وشنيعة ترتكب في وقتنا هذا من قبل دولة تجاهر بأنها زعيمة العالم الحر.
الصواب والعدل هو أن يمثل كل من بوش وبلير أمام محكمة العدل الدولية, فالآلاف إذا لم نقل الملايين في الولايات المتحدة يعتملهم الغضب والخجل من أفعال حكومتهم, لكن حتى الآن لم تتشكل أي قوى سياسية مناهضة وهذا ما يدعو للقول إن الخوف والقلق يتفاقمان يوما بعد يوم.
إن حياة الكاتب هي هذا النشاط المعرض للهجوم المستمر ومن الصواب القول إنك تعمل لوحدك في مهب الريح ولن تجد حماية أو ملجأ إلا إذا كنت تكذب وعندها ستتحول من رجل ابداع الى رجل سياسية.
عندما ننظر الى صورتنا في المرآة نجد أنفسنا صادقين ولكن ما إن نتحرك ميليمترا واحدا حتى تتراءى لنا تموجات وانعكاسات مختلفة عندها يجب على الكاتب أن يفتش عن الحقيقة في مكان آخر ويحطم المرآة, ولكن على الرغم من وجود هذه العوائق الضخمة عليك أن تكون كمفكر ثابت العزم صلبا لا يلين وعلينا كمواطنين معرفة حقيقة واقعنا وحياتنا ومجتمعنا وهذا واجب أساسي ملقى على عاتقنا جميعا وهو أمر حتمي لا يجب التخلي عنه, وإذا لم نكن ثابتين وحازمين في رويتنا السياسية فلن يكون لدينا أي أمل بإصلاح أوشكنا على فقده ألا وهو (كرامة الانسان وشرفه).