أما النوع الثاني وهو المسمى جهاد الطلب, وهو ما كان يعبر عنه بالغزو فالمقصود به حماية قوافل الدعاة من الغدر والخطر, وحماية حق الناس في اختيار العقيدة حين يصر الاستبداد على منع الناس من اختيار عقائدهم التي يريدون.
حين كنت أكتب السيرة النبوية قبل عشرين عاماً كان يؤرقني سؤال كبير وهو كم من الصحابة الكرام قضى وهو يبلغ رسالة الله? وأين يمكن الوقوف على أسماء أولئك الرجال الذين طواهم تاريخ الصحراء الصامت فغابوا عن صحائف التاريخ, وكم يستحق هؤلاء الرجال أن نذكرهم باحترام وخشوع كلما رسمنا خريطة الوطن العربي الكبير وتأملنا أثر شرايينهم الدافقة وعيونهم الدامعة التي كانت تصبغ وجه الصحراء لتبعث فيها الحياة, بالتأكيد فإنه ليس لدينا سجل لهذه الأسماء ولكن يكفي أن نذكر يومين حزينين من أيام الرسالة في بئر معونة والرجيع ففي بئر معونة أرسل النبي الكريم ثمانية وثلاثين من أصحابه الكرام لإبلاغ الإسلام لقبيلتي عضل والقارة ولكن النتيجة كانت الغدر بهؤلاء الدعاة المسالمين وقتلهم عن بكرة أبيهم, ولم يفلت منهم إلا صحابي واحد تظاهر بالموت وهو عمرو بن أمية الضمري, أما يوم الرجيع فقد شهد مقتل ثمانية من خيار الصحابة الذين ذهبوا يبلغون رسالات الله فيهم زيد بن الدتنة وخبيب بن عدي ولكن سيف الغدر كان بانتظارهم وواجهوا الموت ببسالة وتركوا مثالاً آخر لبؤس الحكيم الأعزل في عصر السيف والبطش.
ربما كانت هذه الأخبار واضحة في تبرير قيام الجهاد ظهيراً لحملة الرسالة لحماية رؤوسهم من بطش أعدائهم, وبالتالي لحماية من يختار الإسلام من شعوب الأرض في مواجهة سيوف الاستبداد الباطشة.
وهكذا فإن رسالة الجهاد (جهاد الطلب ) كانت تتم تحت عنوان حماية الحرية الدينية التي كانت دوماً مهددة ببطش المستبد.
والسؤال الآن هل توقف التاريخ عند هذا الحد? وهل يتعرض حامل الرسالة اليوم إلى التحدي نفسه حين يحمل قلمه ورسالته بالحكمة والموعظة الحسنة إلى العالم? وهل هناك من مبرر لجيوش جرارة تسير في إثر أصحاب الفكرة لحمايتها من سيف المستبد المتربص?
ربما وجدت طرفاً من الجواب من خلال استخدام الإعلام العالمي في نشر الرسالة, فإلى جانب الفضائيات التي أصبحت قادرة على حمل الخطاب الإسلامي في كل مكان في الأرض, وكذلك مواقع الانترنت التي تنتشر في ملايين الحواسيب في العالم والتي يمكن أن تحمل مضامين الإسلام في كل مكان, ولكنني هذه المرة سعيد بأن أقتحم أفقاً آخر من آفاق البلاغ عبر الصحافة العالمية الورقية, ولهذا الغرض كتبت مقالي الأخير بعنوان: النبي الديمقراطي, وذلك بناء على طلب السانديكيت بروجكت.
مؤسسة سانديكيت بروجكت منظمة دولية عملاقة واسعة الانتشار تعمد إلى انتقاء مقالات منتخبة من كافة أنحاء العالم, وفق معايير جد صارمة في الانتقاء والتحرير, وحين تقر مقالاً ما فإنها تنشره وفق اتفاقيات قائمة في 133 بلداً حول العالم تشمل القارات الخمس, وقد بلغ عدد الصحف التي نشرت مقال النبي الديمقراطي أكثر من 328 صحيفة ومجلة عالمية من الفلبين إلى الأرجنتين, كما بلغ عدد النسخ التي طبعت من هذه المجلات 43.845.269 نسخة.
يبدو أنه ليس من المبالغة في شيء أن نقول إن السانديكيت بروجكت هي اليوم أكبر ناشر في العالم, وأنا سعيد أنه أتيح لي أن أنشر مقالاتي على هذا المنبر وهو ما يدفعني أن أؤكد أن العالم اليوم ينفتح للأفكار الجديدة بغض النظر عن مصادرها وغاياتها, وهذا من وجهة نظري هو العصر الذهبي للتعريف بالإسلام, وإزالة الحواجز التي نصبها أعداء الإسلام بين الإسلام والعالم وهي الحواجز التي نقوم بوعي أو بدون وعي بالترويج لها وتأكيدها.
إن تطور العالم بهذا الشكل المذهل وإمكانية التواصل والحوار يطرح علينا أسئلة جدية وصارمة, ويدعونا لمراجعة أفكارنا من جديد.
الجهاد الذي يتم التعبير عنه بالحرب المقدسة كان يبرر ضد الآخر الكافر تحت عنوان الدفاع عن حرية الناس في الاعتقاد, وضرورة إيصال صوت الإسلام إلى العالم, والسؤال الآن من هم الذين يجب أن نجاهدهم من أجل هذا الهدف النبيل? إن العالم يفتح ذراعيه للفكر الجديد من أي مصدر كان, وهو على استعداد أن ينشر لك فكرك بوسائل لم يحلم بها الأولون في الصحافة والأنترنت والفضاء ووسائل الاتصال المختلفة.
كان مشوار الكلمة من مكة إلى المدينة يستغرق بضعة أيام أما مشوارها إلى الشام أو إلى مصر فقد كان يحسب بالأسابيع, أما مشوارها إلى أوروبا فقد كان يحسب بالشهور ولكن مشوار الكلمة إلى الأرجنتين أو البرازيل أو اليابان فقد كان في عالم الوهم قبل أن يبدأ الإنسان بحسابه بالسنين, ولكن ذلك كله اليوم قد أصبح ذكرى من الماضي وأصبحت سرعة الكلمة تحسب بأجزاء من الثانية, فقد تمكنت تكنولوجيا نقل المعلومات من نقل الكلمة والصوت والصورة والفيديو حول العالم كله في أقل من عشر ثانية!!
كان نقل الفكرة محفوفاً بالمخاطر, وربما أدى إلى مصرع الرسول قبل أن يتمكن من إبلاغ رسالته, ورب صحابي أرسله الرسول الكريم فأكلته في الأرض عوادي السباع والطير قبل أن يبلغ برسالته مبلغها, وكانت الملوك تغضب لسماع كلمة الدعوة وتقوم بقمعها بشتى الوسائل وربما قاموا بقتل الرسل دون أن تطالهم محاسبة أو محاكمة, ولكن الفكرة اليوم تطوف من أرض إلى أرض وتنتقل من أفق إلى أفق بالصوت والصورة والنغم, دون أن تخاف من أحد, أو يتهددها أحد في البر والبحر, ولا تخشى لومة لائم ولا بغي باغ ولا حتى الذئب السارح.
إن جهاد الطلب هو أمر لم يعد له مبرر في عالم الاتصالات الرهيب هذا, بعد أن كان الفكر الجهادي قد طرحه ضرورة من أجل إتاحة الحرية الدينية في وجه أولئك الذين يقمعون الحريات ويحولون بين الإنسان وبين اعتقاد ما يشاء.
لقد ظلت بعض الجماعات المتطرفة تتبنى تفسيراً راديكالياً للجهاد وفق ما نقل عن ابن قدامة المقدسي أن الجهاد هو قتال الناس لإخراجهم من الكفر إلى الدين الحق, وهو موقف لا يجوز أن يمر مرور الكرام, بل ينبغي أن يدرك هؤلاء أنهم بهذا يبررون مباشرة الإكراه في الدين وهو ما نهى عنه القرآن الكريم بصريح العبارة: لا إكراه في الدين, وهم بذلك أيضاً يؤكدون ما دأب المستشرقون على اتهام الإسلام به أنه دين العنف والسيف وأنه نشر أفكاره بالسيف إلى آخر الاسطوانة المكرورة التي يعرفها كل أحد.
إن الانفتاح الذي يبديه العالم للفكر الجديد لا تخطئه العين في أي مرفق من مرافق المعرفة, فهو متاح في الجامعات والمدارس والمعاهد العلمية وبرامج الإعلام, مع التأكيد بأن التعريف بالإسلام متاح بقدر ما هو متاح أيضاً مهاجمة الإسلام والرد عليه, وينبغي أن ندرك أن هذا ليس نقضاً لشرط الحرية بل هو تحقيق لمضارعة الحق والباطل الذي أكده القرآن الكريم بقول الله تعالى, وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون, وقوله: وقل الحق من ربكم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
هل يحول بيننا وبين التبليغ أحد? لا أعتقد ذلك, بالمقارنة مع الظروف التي كانت تعيشها الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام الأول فإن بإمكاننا القول إننا نعيش في العصر الذهبي للتعريف بالإسلام.
مات الرسول الكريم وليس بين يدي المسلمين إلا أوراق متناثرة من المصحف لم تصبح نسخة كاملة متاحة للناس إلا بعد رحيله بأكثر من عشرين عاماً, ومضى أكثر من نصف قرن من عمر الإسلام ولا يوجد في العالم الإسلامي كله إلا سبعة مصاحف فرقها عثمان بن عفان في الأمصار, وكان الوصول إلى القارئ المتقن يتطلب السفر من خراسان إلى الشام, ولكن ذلك كله تغير اليوم ففي مطبعة واحدة لقرآن الكريم تمت طباعة أكثر من مائتي مليون نسخة من القرآن بأكمل الطبعات وأدق الشروحات وأجمل الزخارف وأرخص الأسعار, في صورة لا تقارن أبداً بما عاناه الناس أيام الإسلام الأولى..
نحن نعيش في العصر الذهبي لطباعة المصحف الشريف, في العصر الذهبي لإذاعات القرآن الكريم وبرامج القرآن الكريم ومحطات القرآن الكريم, في العصر الذهبي لقراء القرآن الكريم وشراحه ومفسريه, في العصر الذهبي لمعاهد القرآن الكريم ومعاهد العلوم الشرعية ولكن ذلك كله لم يغير من الحقيقة شيئاً, وها نحن حتى الآن لا نزال عاجزين عن إقناع العالم بعدالة قضايانا, فلماذا تكون النتائج على هذه الصورة المحزنة?
أنا لا أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من الفضاء الإعلامي فالفضاء المتاح أكثر من المطلوب ولكننا نحتاج إلى إصلاح أنفسنا وتقديم صورة صالحة عن الإسلام فمن المستحيل إقناع الناس بأن الإسلام رسالة رحمة فيما يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً باسم الإسلام على هذا الشكل الوحشي الذي نراه في العراق أو في أفغانستان, ومن المستحيل إقناع الناس بأن الإسلام تقدم ونحن لا نزال نستعير أصغر تفاصيل التكنولوجيا, ومن المستحيل إقناع العالم بأن الإسلام رسالة حب ونحن لا نزال نمارس احتكار الخلاص والجنة والحقيقة.