وقد سبقته وعود بلفورية أخرى: فرنسية وألمانية, كان خطوة على طريق إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. ولهذا كان على المستعمرين البريطانيين أن (يختلقوا فلسطين أولا, ليختلقوا إسرائيل لاحقا). أما اختلاق فلسطين فقد تم في الثالث من أيار عام 1906 حين وضع Jennings Bramley المفتش الإنجليزي الذي كان يقيم في قرية إنخل في شبه جزيرة سيناء, وبناء على رغبة الأدميرال (أوين) Owen مدير المخابرات العسكرية البريطانية في المشرق العربي والذي كان يتخذ من القاهرة مقرا له, خطا يفصل بلاد الشام (سورية الكبرى) عن مصر. ( د0 سلمان أبو ستة - حدود فلسطين عالم الفكر العدد 4 /2004 ص 26). ما كان لهذا الإختلاق أن يتم لولا أنه جاء في سياق ما عرف في العلاقات الدولية وأبحاث الصراع ب (المسألة الشرقية) التي كان مسرحها بلاد البلقان وبلاد الشام. وبالتالي فإن البروفيسور آفي شلايم Avi Shlaim يطرح في كتابه (الجدار الحديدي)The Iron Wall السؤال: هل انتهت المسألة الشرقية? وهو سؤال يحمل في جوفه سؤالا آخر ُمضمرا : هل أقلعت إسرائيل عن أعمالها التوسعية, بما تعنيه من قضم للأرض العربية, واستقدام للمهاجرين , ومن ثم بناء المزيد من المستوطنات? أم أن المسألة الشرقية أخذت لها معنى آخر, مع بروز تيار المحافظين الجدد, بات يعرف بالشرق الأوسط الجديد القائمة فكرته على تفتيت المفتت , وإعادة رسم خريطة المنطقة وفق منظور مقررات مؤتمري لندن وباريس?
كان هدف هذه المسألة, التي انطلقت شرارتها من البلقان عام 1820, تفتيت الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعرف آنذاك ب (الرجل المريض). وفي سبيل تحقيق هذا الهدف عقدت الدول المتحالفة آنذاك, وإثر حملة محمد علي باشا على بلاد الشام مؤتمرين:أولهما في لندن عام 1840, وثانيهما في باريس عام 1856. تجوْهر المؤتمران, من منظور اجتماعي, حول التعامل مع سكان بلاد الشام باعتبارهم (طوائف), فيما تعامل وعد بلفور مع اليهود, وحتى في مرحلة الإعداد له وعبوره الأطلسي, باعتبارهم شعبا يتعين أن يكون له (وطن قومي) في فلسطين . هكذا ورد في رسالة وزير خارجية بريطانيا اللورد / آرثر بلفور / إلى اللورد روتشيلد رئيس الإتحاد الصهيوني البريطاني.
لماذا وعد بلفور, بل لماذا الوعود البلفورية كلها ?
يميل شارلي أندرلين, في كتابه (أسرار المفاوضات) إلى أن وعد بلفور كان مكافأة ل (حاييم وايزمن) الكيميائي البارز, الروسي المولد , البريطاني الإقامة, والذي أكسبه إسهامه في المجهود الحربي انتباه رئيس الحكومة البريطانية ( لويد جورج). قد يكون ذلك صحيحا , لكن التسليم به أمر يضعنا أمام السؤال: هل الأفراد هم الذين يصنعون التاريخ? من يريد القول بشخصنة التاريخ عليه أن يتوقف أمام السؤال :لماذا هزم بومبي ? هل هزم لأن كليوباترة كانت ذات أنف أقنى ? علما بأن المؤرخين وعلماء الإجتماع وفي مقدمهم العلامة ابن خلدون الذي تحدث عن التاريخ في مقدمته باعتباره تارة (فنا) وأخرى باعتباره (علما ) جعل لأحداثه سببين : منها الظاهر ومنها الباطن والأخير يحتاج من المؤرخين والباحثين إلى إعمال الفكر والمحاكمة المنطقية والعقلية, اتفقوا على أن التاريخ حركة لولبية دائمة الصعود أحداثه الراهنة هي بنات مقدمات سابقة. وإلى هذا يذهب آرنولد بريخت Arnold Brecht في كتابه (النظرية السياسية) في كتابه (ما هو التاريخ ). وعليه فإنه من الأسلم منطقيا أن نقول إن وعد بلفور كان( سياسة دولة) يرسمها الأفراد بعقل جماعي خدمة للمصالح العليا لبلادهم .هذا إضافة إلى أن الإنكليز, الذين كانوا يعتبرون الحركة الصهيونية حليفة قابلة عند الاقتضاء لاستنفار الجالية اليهودية الأميركية, التي داعب حلم (نهضة الشعب اليهودي التوراتي) فئة من المسيحيين الأميركيين. وهذا ما يؤكده لويد جورج في مذكراته( الجربة والخطأ ), ويقول :ان (السبب الحقيقي كان يهدف إلى دفع اليهود الأميركيين إلى حمل حكومتهم على خوض الحرب ), بعد أن أدركوا أن الحرب قد طال أمدها ( رومان برودسكي)(الحقيقة حول الصهيونية)- شؤون فلسطينية عدد 52/1975 ص 147) , وبعد أن أغراهم ناحوم غولدمان بأن الصهاينة مستعدون لمنح بريطانيا الحق لإقامة قواعد بحرية وجوية إن هي وافقت على (تأسيس دولة يهودية) على 65% من أراضي فلسطين. إضافة إلى أن البريطانيين كانوا يرفضون تقاسم فلسطين مع الفرنسيين لا سيما وأن القطاع الشمالي منها كان تابعا لولاية بيروت, التي كانت فرنسية بحكم اتفاقية سايكس- بيكو .(أندرلين ص 13). وبتعبير آخر , يقول عبوشي :أراد البريطانيون أن يكونوا في وضع يسمح لهم بالقول للفرنسيين( لا تستطيع إعطاءكم فلسطين لأننا التزمنا بإنشاء وطن قومي لليهود عليها).
أما جورج أنطونيوس فقد رأى أن الحكومة البريطانية دفعت إلى إصدار وعد بلفور بعاملين: أولهما سياسي وهو: كسب العناصر الصهيونية المتنفذة في ألمانيا والنمسا والمجر لاسيما وأن تلك العناصر كانت تفاوض هذه الدول لحمل تركيا على إصدار وعد مماثل لوعد بلفور تعترف بموجبه بالطموحات الصهيونية في فلسطين واصف عبوشي (فلسطين قبل الضياع) فأرادت بريطانيا في الوقت نفسه أن توظف تلك العناصر الصهيونية في خدمة الحلفاء تخفيفا من عدائها لروسيا وتحفز الضالعين منهم في قلب النظام القيصري ليعملوا على استمرار روسيا في الحرب.
وثاني تلك الأسباب استعماري بريطاني تنامى بأهمية فلسطين في الاستراتيجية البريطانية , وهو دافع تولى اللورد كيتشنر بلورته حين دعا إلى اتخاذ فلسطين أو جزءامنها درعا لحماية مركز الإنكليز في مصر, خاصة وأن مصر لم تغو يوما إلا من جهة الشرق فهل تأمن مصر من غزو إسرائيلي في يوم ما في مرحلة قادمة, وجسر أرضي يربط بين مصر والعراق , أي بين قناة السويس في مصر والنفط في العراق باعتبارهما مصالح حيوية. وكان هذا العامل أقوى العوامل, ومهما كانت العوامل الأخرى: مالية أو سياسية أو دينية فإن هذا العامل كان وحده كافيا لإصدار وعد بلفور.
وهناك من يضع في مقدمة هذه الأسباب رغبة بريطانيا في مكافأة حاييم وايزمن على اختراعه نوعا جديدا من المتفجرات, غير أن جورج أنطونيوس في كتابه (يقظة العرب ط7 ص367) يصف الأمر بأنه(اسطورة).
* باحث فلسطيني