ومنهم الجندي الذي أخضته لعنة تلك الحرب لجلساتِ علاجٍ نفسية.. جلسات وإن كانت مكثَّفة إلا أنها عجزت عن تخليص ذاكرته مما بات فيها من صورٍ أدانت بلاده ووصمتها بالتهور والعنف والاستهتار.
هذا ما حصل لهذا الجندي الذي فقد سيطرته على نفسه وعالمه. نفسه المقيدة بوصمة الحرب وعقدتها، وعالمه المتجسد في أسرته التي فقدها بعد أن باتت ذاكرته مسكونة بتداعيات الحرب وويلاتها.
إنها «الوصمة البشرية» التي لم يتوقف هذا الجندي- ومذ عاد من الموت والدمار الفيتنامي- عن الشعور بها. أيضاً، لم يتوقف كاتب الرواية الأميركي «فيليب روث» عن التأكيد على أنها، من أهم القضايا التي تناولت بنية المجتمع الأميركي الداخلية والخارجية.. الوصمة التي جعلت قصة هذا الجندي، هي بداية الجحيم الذي قتلَ أعداداً كبيرة من الجنود الأمريكان الذين تورطوا في الحرب الفيتنامية، والذي شكّل لمن عاد منهم:
«شكَّل عقدة ضخمة كورمٍ اتَّخذَ مع الزمن طابع العقدة الفيتنامية، بل أزمة اتَّخذت مع الزمن طابع السؤال المرير: ترى كم عقدة لغَّمها هؤلاء الجنود الأميركيون في عالمنا اليوم، وفي داخل كل إنسان ذاق لعنة الوجود الأميركي في صميم بلاده؟».
في «الوصمة البشرية» يكشف «روث» عن مقدار اللعنة التي شعر بها الجنود الأمريكيون الذين شاركوا في حرب فيتنام. اللعنة التي كانت سبباً في تفكيرهم، بأن هذه الحرب هي وصمة حياتهم.. سياساتهم.. بلادهم.
يكشف «روث» أيضاً، عن روح الهزيمة والرعب اللذين ظلَّ الجندي الأميركي يعيشهما ككابوسٍ لايبرح ذاكرته، وإلى أن بات من المألوف لديه:
«رائحة الدمِ التي تبعثها الأرض المغتصبة.. القنابل.. الرشاشات.. القذارة التي لا تُخلِّف سوى ذاكرة دموية».
أيضاً، إلى أن بات يهذي وحتى آخر الرواية: «عدتُ من حربِ فيتنام بكلِّ غضبٍ واستياء. حينما عدت لم أكن أريد أن أعرف أي إنسان. عدت ولم أتعلَّق أو أتواصل مع أي شيء مما يحدث حولي.. كنت هناك لأودع العالم.. كان الأمر جنوناً تاماً».
إنه ما آلَ إليه حال هذا الجندي، بل حال كل جنود أميركا العنصرية. هذا مابات عليه حالهم وبدليلِ ما قرأناه من عارهم. قرأنا «وصمة بشرية» الرواية التي أول ما تناول فيها «روث» الوصمة التي لحقت بأستاذ جامعي في الواحد والسبعين من عمره، وبطل الرواية اليهودي- الأميركي، الذي وُصمَ ولتورطه بعلاقةٍ مع سيدة أميّة، بما أضيفَ إلى الوصمة التي كان سببها تورطه أيضاً، في قضية عنصرية أدت إلى استقالته بعد أن قامت ضده دعوة قضائية.
إذاً، لقد كانت الوصمة التي تناولتها الرواية وكشفتها أميركية- عنصرية. ذلك أنها كشفت عن القيم العنصرية المتغلغلة داخل المؤسسات الأمريكية. داخل طبقاتها المختلفة، وقضاؤها وتعليمها وجيشها وجامعاتها وأكاديمياتها.
نعم، إن ما كشفت عنه هذه الرواية، هو صورة المواطن حين يكون أميركياً-افريقياً، ويوصم فيهرب من حقيقته، ويتخفى بلونه، ويعيش انفصاماً مؤلماً وقاتلاً.
ببساطة، هي وصمة الهويات، الدين، الطبقات، الجنس (ذكر-انثى) لون البشرة، الانتماء، الحرب وشهوة الدم والاعتداء. الشهوة التي ننهي بقول الكاتب عنها:
«لا كلمات.. لا أفكار.. إنه الغضب.. الأزمات النفسية بسبب هذه الحرب التي لا تقود إلا إلى مهمات انتحارية».