كما وجدنا العديد من اللوحات التعبيرية والرمزية المستعادة من معايشة الأحداث الجسيمة، التي عصفت بالمجتمع السوري في مرحلة الحروب والأهوال، إلى جانب الموضوعات الأخرى، ولقد أقيم المعرض تحت عنوان «إيقاعات».
تحوير وتبسيط
والتجربة تسير في إطار هاجس اختصار الموضوع وتبسيطه وإعادة صياغته بلمسات لونية عفوية ومتتابعة ومتجاورة، لإيجاد حلول حديثة للتآلف أو للتكوين الباحث عن ملامح تعبيرية إنسانية, لا يتبلور فقط عبر الحركات واللمسات والضربات اللونية الفورية والمباشرة، وإنما عبر التأكيد على تنويعات المواضيع والحالات الإنسانية.
والشعور بضرورة الذهاب أبعد من الإشارات التسجيلية للوجه، دفعه في اتجاه تعبيري ورمزي وتهكمي وساخر لتحسس مرارة الواقع وتناقضاته ومظاهره السلبية وأحداثه المفجعة. فهو يعطي التشكيل الحديث مداه التخيلي والرمزي، ليتصدى من خلاله لتوترات العيش وسط يوميات الحروب والأهوال والأزمات الاقتصادية الخانقة، فالإشارات الدلالية في لوحاته, تفضح الزيف وتسقط الأقنعة، وتبحث عن واقع إنساني أكثر عدالة في هذه الظروف المأساوية, وفي كل الحالات تبرز لوحاته كردة فعل إنسانية ضد التخلف والتطرف والجهل والنوم على أمجاد الماضي، دون القدرة على النهوض, والعمل وتجاوز الواقع المنحط والمتردي.
هكذا يتجه نحو مظهر تحوير الوجوه والأجساد والطير والسمكة وغيرها, ويستعين بالرموز المعبرة عن هذا الواقع، ويمنحها أحياناً بعداً خيالياً واسطورياً, حتى أنه يقدمها بألوان مغايرة لما تراه العين في الأبعاد الثلاثة عبر التركيز لإظهار التبسيط أو الاختصار أو إلغاء الثرثرة التفصيلية وإظهار العفوية في حركة الخطوط والألوان، واللجوء أحياناً إلى رسم المشهد بعين طائر (مثل مشهد تشييع الشهداء, الذي أجاد في رسمه من نقطة أعلى من خط الأرض) والغوص في المسائل التقنية (الاتجاه إلى المزيد من الاختبارات وتركيب الطبقات اللونية الموضوعة فوق بعضها البعض، وغير ذلك من أفكار جمالية معبّرة عن حداثة الرؤية التي تنتمي إلى الماضي البدائي والفن المعاصر في آن واحد).
فطرية وبدائية
ففي لوحاته نفحة من أجواء الرسوم الفطرية والبدائية، وهو يجعل خشونة وملامح الوجوه تحمل تأثيرات متعاقبة تعاقب الزمن نفسه, كأنه يستعيد معالم آثارية تروي علاقة الإنسان البدائي بالفن، حين كان يجسد الحيوانات التي يصطادها على جدران الكهوف بعفوية مطلقة تضاهي عفوية فنون الحداثة وما بعدها, وبذلك نكون قد تكلمنا عن رسوماته البدائية والحديثة في آن واحد, انطلاقا من مقولة مفادها «البدائية هي الأكثر حداثة» رغم وجود بعض اللوحات الواقعية أو القريبة من الواقع، مثل موضوع النساء بالسلال أو الجرار فوق رؤوسهن.
هكذا نجد تنقلات على صعيد المعالجة, وعلى صعيد المواضيع المطروحة، رغم أن الأعمال منفدة بروح واحدة، فإذا بدا خلدون بدائياً في مجموعة من لوحاته, فهو يبدو في لوحات أخرى أميل إلى التعبيرية - الرمزية التي تلاصق أو تقدم لوحة بانورامية, إلا أنه في كل الحالات يرسم بصدق مطلق، ويقيم حواراً داخل اللوحة بين انفعالاته الذاتية والمشاهد المرتبطة بواقع الاحداث والويلات، وبالمواضيع الأخرى, وهو بذلك يكسر السياق الموضوعي, ليركز أكثر على الضربات اللونية الخارجة من أحاسيسه ورؤاه الفنية, من دون أن يبقى الموضوع محافظاً على حضوره التقريري المباشر, حتى أنه يحاذر في تنقله من صياغة لونية إلى أخرى الخروج من إطار المعالجة الأسلوبية الموحدة في المعرض الواحد، وهذا هو الشيء الهام قبل أي شيء آخر.
حشود بشرية
نحن هنا أمام أجساد يأخذها إلى حالة تعبيرية وخيالية لا تتوقف عند معالجة واحدة، فاللوحة عنده تتشكل بخيالات مختلفة تعمل على تكثيف العناصر الانسانية في بعض الخلفيات أو تبتعد عنه، حيث يحضر وجه الرجل والمرأة أو يحضر الوجه منفرداً, رغم أن الصياغات التعبيرية المتفاوتة التي يجريها, تبدو شبه موحدة في اسلوبها, وحين يحضر الشخص الواحد في اللوحة, فهذا يعبر عن مشاعر الغربة والأحلام الضائعة في عالم اليوم, مما يجعلنا نشعر، أنه في معظم لوحاته، ليس ببعيد عن تداعيات القلق والاختناق والدمار الداخلي الذي يلف الإنسان المعاصر المحاصر بالقلق والتوتر والاضطراب والأهوال.
facebook.com adib.makhzoum