كانت تجلس أجاثا كريستي في غرفتها في فندق( أولد كاتاراكت) في اسوان وتتأمل هذا المشهد الممهور بالسحر كل صباح..
كان ذلك عام 1933 وفي هذا الجناح الكبير الشبيه بشقة باريسية جميلة خطت الكاتبة الانكليزية فصولاً عديدة من رائعتها(جريمة على ضفاف النيل).. ولم يبق اليوم ما يشهد على ذلك سوى طاولة كانت تكتب عليها وصورة بالأسود والابيض تروي ولادة هرقل ودفتر صغير كانت تكتب عليه ملاحظاتها, ولا تزال تلك الشواهد على اقامتها حتى اليوم تدغدغ حواس الزائرين للمكان اما الاشياء الاخرى فقد ضاعت خلال الاضطرابات التي تلت ثورة 1952 بقيادة جمال عبد الناصر حيث أُمم الفندق وسلمت ادارته الى شركة (أكور) التي ما زالت حتى اليوم, وكان حينها الفندق يحمل اسم كاراكت فقط واضيف اليه (OLD) بعد ان اقيم فندق آخر بجانبه يحمل نفس الاسم . وبعد موت اجاثا كريستي بعامين أي في العام 1978تم تصوير جزء كبير من فيلم يحمل اسم روايتها في الاماكن ذاتها واعتبر ذلك اساءة الى ذكراها ولو بشكل غير مباشر . الجدير قوله انه قبل ان تكون اجاثا كريستي ملكة الروايات البوليسية كانت مولعة بشكل كبير بالسفر وسحر الشرق حيث تنقلت كثيرا بين تركيا وسورية والعراق مع زوجها الثاني عالم الآثار ماكس مالوفان ورائعتها الشهيرة (جريمة في قطار الشرق) كتبت معظمها في فندق (بارون) في حلب عام 1934 اما روايتها (جريمة ما بين النهرين) فقد كتبتها في بغداد وبقيت مصر عصية عليها فترة طويلة مع انها زارتها أول مرة عام 1910 ولم تذهب أبعد من القاهرة عام 1923 لتستمتع بلياليها الساحرة, لكنها عادت بعد عشرين عاماً لتكتشف وادي النيل على متن سفينة أبحرت بها من الأقصر حتى اسوان حيث ولدت اثناءها فكرة الحبكة البوليسية في كتابها ( جريمة على ضفاف النيل)حيث قدم لها النيل طابعاً وحشياً بعيداً عن المدينة محاطاً بصخوره الضخمة المستقرة فوق الماء وشكل مشاهد حزينة بل بائسة ساهمت بايقاظ غرائز عنيفة تكدست في ثنايا النفس واستشاطت غضباً كما هو النيل عبر الأزمان والذي دجنته الحداثة وروضت ثورته عبر السدود فأسوان هي قلب بلاد النوبة وهي بوابة افريقيا السوداء حيث يشكل النهر الحدود الطبيعية مع السودان وكم كنا نشاهد على ضفافه جلود الأسود والحيوانات المفترسة وأكياس القطن الكبيرة وأكياس ورق الحنة وعاج الفيلة التي كانت تدافع بها عن نفسها كما كتبت اميليا ادوارت في كتابها ( ألف ميل عبر النيل) عام 1877 أما سوق أسوان فبقيت ممزوجة بألوان وعطور القارة السوداء والتوابل مروراً بالأقمشة المزركشة والمنحوتات والامتعة المصنوعة من الخشب دون ان ننسى تراب الصلصال الرملي والغرانيت الأسود وزرقة النهر واخضرار النباتات, انها ارض التضاد الفريدة في مصر والتي سحرت الكثيرين من هواة السفر منهم الكاتب الكبير غوستاف فلوبير الذي جاء في القرن التاسع عشر ووصف هذه اللوحة الطبيعية الرائعة في كتابه رحلة مصر بالقول: (عند مغيب الشمس تبدو الاشجار وكأنها رسمت بقلم رصاص أسود وتلال رمل اشبه بالتبر, وبين مكان وآخر نلمح خيوطا سوداء ترسم اطارا ابنوسيا على خلفية ذهبية).
وإن جردنا المكان من ابنيته الحديثة وركزنا على قرص الشمس الأحمر عند المغيب أوعلى اصطفاق اشرعة مراكب الصيد, لن نضطر الى بذل جهد كبير للولوج الى اعماق شخصيات اجاثا كريستي, ولم يتغير شيء بدءاً من رصيف الفيلة وصولا الى الاثاث والخدم دون ان ننسى طقوس أكواب الشاي المعتادة تناولها عند العصر, وكانت اجاثا كريستي قد تنبأت منذ ذلك الحين ان هذا المكان سيكون مادة اساسية لوسائل الاعلام وسيجذب المشاهير من انحاء العالم خاصة الكتاب وفعلا زاره الكثيرون وجلسوا على الشرفة الخشبية, منهم الرئيس فرانسوا ميتران, واليوم كثير من السياح وبالاخص اليابانيين يلحون على زيارة الجناح الذي كانت تقيم فيه الكاتبة حتى ان البعض يذرف الدموع لدى التقاط الصور التذكارية كما يروي أحد العاملين في الفندق,وعن افتتان الاجانب وسحر المكان يقول ان الانكليز اعتادوا على قضاء اجازاتهم الشتوية على ضفاف النيل حتى ان بعضهم يأتي الى الفندق ولا يخرج منه طيلة اشهر.
وللحفاظ على المكان يقول المدير العام للفندق ان جهوداً كبيرة ستبذل لترميمه ولاعادة الروح اليه كما كان سابقاً.