والثاني إيمان الثقافة العربية ان الوقت لم ينضج لتشق طريقها الى عقول وقلوب المشاهدين, وهي تعول على الزمن بمجيء هذا الوقت وتأمل ألا تجد نفسها مضطرة لانتظاره زمناً طويلاً مديداً.
القائمون على الثقافة يراقبون المشهد الثقافي العربي بهدوء يثير الريبة إن لم نقل الاشفاق لايلوون على شيء, الامر الذي اثار من حولهم الشكوك حتى ذهب بعضهم الى الاعتقاد ان هؤلاء يرون المنكر بأعينهم ولا يريدون تغييره حتى بألسنتهم وهو أضعف الايمان, ويزداد الامر غموضاً عندما يصر هؤلاء على الاحتفاظ بصمتهم , وكأنهم يعلنون الموافقة على ما يرمون به من تهم, وإن لم يكونوا موافقين فهم في أحسن الأحوال ليسوا بمعارضين.
وبين هجوم الخائفين على الثقافة وصمت انصارها الذين ينتظر الشارع الثقافي منهم التحرك يوما ما, تزداد صورة المشهد أسوداداً وحلوكاً ويصبح المجال متاحاً لولادة التأويلات والتحليلات بعيدا عن العقلانية والتروي,ويصبح من الصعوبة بمكان تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر.
ويريد الخائفون على الثقافة من الانصار ان يتفضلوا عليهم باسعافهم بجواب للسؤال الحائر الذي يتقلب على ألسنتهم كما يتقلب السليم فوق فراش الوجع والسهد ألا وهو : هل تخشى الثقافة عصر الفضائيات?!
يقولون بحسرة: نشاهد كل حين ظهور قنوات فضائية جديدة تتعمد تقديم المادة الفارغة التافهة والمقاييس لديها ضاعت وبات من العسير عليها ان تجد نفسها .
الغناء مثلا وهو من ارقى الفنون بات متوجها الى الغرائز يهزها هزاً عنيفاً ويرميها في أرض الدهشة والصدمة, يتابع المشاهد الأغنية فيرى قصة لا ترابط بين أحداثها ما خلا تسليط الضوء على مفاتن الجسد الانثوي الذي لا تمانع المطربة صاحبة الجسد المثير والزي المغري والصوت الخالي من كل رخامة وعذوبة ان تقدمه سلعة تكون سببا في ارتفاع الطلب عليه. ويحار المشاهد في أمره وهو يحاول الامساك بخيط رفيع واه يقوده للعثور على وجود رابط بين كلمات الاغنية واحداث التصوير المرافقة لها, وأحيانا يمزق قواميس اللغة العربية في محاولة يائسة للعثور على معاني الكلمات والتراكيب المبتدعة المستخدمة من قبل مغنيات الجسد لا الصوت , فلا يظفر ببغيته , وربما ظن بلغته الأم الظنون واعتقد كما يشيع مبغضوها انها لغة فقيرة غير قادرة على استيعاب ايقاع العصر السريع, والسير معه في ركب واحد!.
قنوات رياضية تحتفي بالفرق الاوروبية الغربية والشرقية والامريكية الشمالية والجنوبية , ينفعل مذيعوها وهم ينقلون احداث بعض المباريات في كرة القدم او السلة أو اليد انفعالا يظن المشاهد معه ان الفريق الخاسر ينتمي الى قبيلة المذيع, هذه القبيلة التي تضم رهطاً كبيراً من اللاعبين والاداريين , وكلهم من بطون وأفخاذ وقبيلة المذيع الذي يفرح اذا انتصروا فرحاً طائشاً وينتحب -والحمد لله لا ينتحر- اذا هزموا انتحابا مريرا.
اما القنوات التي تقدم برامج سياسية وتحتفي بنشرات الاخبار على مدار الساعة فلها شأن آخر لأن هذه القنوات تلجأ الى الاستعانة احيانا بضيوف يحفظون المسرحية التي ينوون تقديمها عن ظهر قلب, لكن اندماجهم وانصهارهم بالدور الذي يؤدونه يجعلهم يخرجون عن النص, ويحاول مدير البرنامج المخرج اذا اشتطوا ردهم الى جادة الصواب, فيخرج الامر عن نطاق السيطرة لانفلات الخيط الذي كان يمسك دمى مسرح العرائس من يده, وينجم عن هذا الخلل حرج كبير تصاب به القناة التي تخشى انفضاض جمهورها من حولها فتبادر الى الاعتذار حرصا على العلاقة مع الجمهور .
قنوات وقنوات تنمو نمو الفطور غب أيام صال خلالها الرعد وجال , وهيأ المناخ المناسب لظهور هذه الفطور , ويرقب المشاهد بعين الامل والرجاء ولادة قناة تحتفي بالثقافة, وتفسح المجال لرجال الفكر ليسعوا ببضاعتهم الراقية الى الجمهور العربي الذي يعاني فقراً ثقافيا مدقعاً لا يبغون إلا تقديم هذه المادة لا يريدون جزاء ولا شكوراً, فتتعسر ولادة مثل هذه القناة او يتبين ان الحمل كان حملا كاذباً!
الاستثمار في الاعلام كما لا يخفى على أحد بات استثماراً رابحاًهذه الايام وتجارة لايخشى صاحبها كسادها , إلا في حقل الثقافة, التي يرتعد المستثمر لدى سماع اسمها ونضطر الى نجدته بكأس او طاسة الرعب ونقول له : لا بأس عليك , دعك من التفكير في الاقتراب من هذا الخطر المطبق , الى ان تنجلي الغمامة ولا ندري متى ستنجلي وكلنا أمل ألا تكون كليل النابغة الذبياني يقاسيه بطيء الكواكب,او كليل امرئ القيس ما الإصباح منه بأمثل .