ويرى بودلير أن المرآة هي بالضرورة وضيعة لأنها قريبة من الطبيعة؛ وما يطغى عندها هو الحيوانية؛ إنها خاضعة بشكل مباشر واستبدادي للغرائز الجسدية، وهي عاجزة عن التحرر منها، وكل نشاطها ينزع لإرضاء هذه الغرائز، فهو يبغضها لا بل يعاديها، يقول بودلير: «المرآة على النقيض من الداندي. إنها مرعبة. تجوع المرأة وتريد الأكل؛ تعطش وتشرب. وعندما تتشوق للجنس تريد أن تضرب. الجميل يستحق. المرآة طبيعية يعني بغيضة». إنها مختزلة إلى جسدها وعالم الحياة الروحية موصد أمامها بشكل مطلق. ويفترض بودلير بشكل ساخر أنها مسلوبة من الروح. ومع ذلك يجد بودلير نفسه في الوقت ذاته مجبراً على الاعتراف بالغريزة لجنسية و بالانجذاب نحو المرأة ونحو رفقتها.
ولهذا نستطيع القول إننا نجد وبشكل واضح في كتاباته معضلة لا تتوقف عن تمزيق وعيه البائس المنحط: الاعتراف المتزامن بالطابع الشيطاني للحب، وبالطابع الوضيع للمرأة وباستحالة الاستغناء عنها في الوقت ذاته. فالحل المؤقت والمؤلم الذي يتبناه يقضي أولاً بقبول أن يعيش الحب والجنس على نمط الشعور بالذنب والذي يقضي بأن يرى في الحب والجنس التعبير المتميز للشيطانية، ولهذه الرغبة الأساسية للإذلال والإهانة التي تكونها الانحراف والمعبر عنها في الجملة الشهيرة من «صواريخ»: «أنا أقول: اللذة الوحيدة والعليا للحب تكمن في اليقين بفعل الشر».
لقد استخدم بودلير جسد المرأة وسيلة قفز للوصول نحو عالم الجمال الذي ربط مثل الحب الرومانسي الملاك والشيطان؛ كان بودلير مولعاً جداً بالنساء، يقول في «الفراديس المصطنعة: «والحاصل أريد القول إن الولع المبكر بالمحيط النسائي بكل هذه الأبهة المتماوجة المتلألئة العطرة، هو الذي يصنع العبقريات الفائقة «.
لقد انجرف بودلير –كما أسلفنا- وراء الملذات الحسية وراح يقضي وقته في معاشرة النساء الرخيصات المومسات الذابلات، واستسلم لرغبات الجسد والهوى، وبقي أسير رغبته العمياء. ونشهد ذلك جلياً في الديوان الذي تسيطر عليه مفردات الجسد والتوصيفات الجنسية المتوهجة. تعرف بودلير على امرأة خلاسية تدعى جان دوفال، كانت حتى آخر حياته العشيقة الحسية التي تجسد الحب المجنون، الحب الإيروتيكي والشيطاني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وبقيت جان دوفال المرأة الوحيدة التي كانت تركن إليها روحه القلقة المتعبة وأصبحت ربة شعره الأولى بين كل النساء، فهي تجسد الزنجية القادمة من بعيد والساحرة بجمالها الغريب، إنها تطلق قوة جذب واحتقار ونفور في آن واحد. وكان بودلير يقول عنها: «إنها تضمد جراح عقلي». أحبها بودلير حباً مجنوناً كبل عقله وقيده ومنعه من رؤية الحقيقة. وأصبحت جان تجسد في نظره الجمال المقدس، والذي يسمو فوق كل جمال، إن جمالها يتناقض كلياً مع جمال البطلة الرومانسية التي يراها بودلير مفرطة الكآبة والشحوب ويصرح بذلك في قصيدته «المثل الأعلى»:
«لن تستطيع هذه الجمالات الزخرفية
هذا النتاج المزري لعصر تافه
وهذه الأقدام بأحذيتها الثقيلة والأصابع بصناجاتها
أن ترضي قلباً كقلبي
لقد تركت «لكافارني» شاعر الشحوب
قطيعه المغرد من حسناوات المشافي
لأني لم أستطع أن أجد بين هذه الورود الشاحبة
زهرة بحمرة مثلي الأعلى»
كان بودلير عبداً ضعيفاً جباناً بين يدي جان دوفال. كان الضحية المازوشية والجلاد السادي الذي ينفتح على ظمأ لا يروى وشهوة لا تشبع. هذه الشهوة جعلته يلهث وراء اللذة ويحتقرها في آن معاً: فهي تختزن الحب الحيواني الجارف والكراهية المقيتة: «لا يمتلك الجحيم الأنثوي البودليري وجوداً مستقلاً بل يقبع على عرش البشاعة والنفس الخبيثة المولعة بالدم والقتل».
كان بودلير قد وصف بالسادية في حبه الدامي، وشهواته السافلة، الممزقة، الهادمة إلى حد المرض «هذا الهيجان الجامح للجرائم التي تولدها مفاتن المرآة الجسدية يذكرنا بالشيطان الذي يستعبد جسدنا ويجعل منه أداة رئيسة في صراعه مع الرحمن. إن حب جسد المرأة يعني بالنسبة لبودلير تفضيل اللامتناهي الأرضي على اللامتناهي السماوي، وعبادة المخلوق بدلاً من الخالق. إن خطيئة توثين الجسد التي يرتكبها بودلير في كتاباته تفضي إلى المأساة لا بل إلى القتل. هذا الموقف الذي يخرق القدسيات ويدنسها يكشف في الوقت ذاته عن احتقار للجسد وقرف واع للطبيعة بالقدر الذي يترافق مع الافتتان بالجمال والاستسلام للشهوة الجسدية، والتي تشكل – كما رأينا – سمة من سمات النص الحداثي عند بودلير، وبهذا الصدد يقول أنطون مقدسي: «انكفأ الفكر الإنساني في أشكاله الكبرى أذكر منها على الخصوص العلم والأدب والفلسفة، انكفأ على سمو الجسد في أدق دقائقه. فالنص الحديث، أياً كان جنسه أو نوعه، جسدي، فشاعريته هي شاعرية الغربة والحاجة والشهوة والعطش إلى جسد الآخر. رغم أن قضاء الحاجات أصبح اليوم ميسوراً إلى حد الابتذال والتفاهة الكاملين، لا بل هو يمضغ الشهوة الجسدية ويلوكها لدرجة يشمئز منها الحس السليم».
وهكذا في ليلة من الليالي
عندما تدق ساعة الرغبة
أريد أن أزحف نحو كنوز جسدك
كما يزحف الجبان متستراً بالصمت
حتى أعذب جسدك الغض
وأثخن بالجراح نهديك
وأطعن جنبك الذي أخذه العجب
طعنة عريضة وعميقة
وأنفث سمي عبر شفتيك
بحلاوة تبعث الدوار
هاتين الشفتين اللتين
لا أبهى منهما ولا أجمل
يا شقيقة روحي»
«إلى التي تفيض فرحاً»
يستند الخيال البودليري بقوة على المعطيات المادية للإدراك الحسي الذي يكره التجريد ويعشق التجسيد. ويتسم هذا الخيال المتوثب بقدرته على خلق صور مليئة بالحركة والدينامية، والتي يغلب عليها الطابع الحسي، الفيزيولوجي، العصبي، الانفعالي. في الحقيقة، يستمد الحب البودليري حداثته من هذا الطابع العصابي المتوتر القلق لروح وفكر العالم الحديث حيث ترتبط الجسمية وهي – كما أسلفنا - سمة من سمات النص الحداثي بالبدائية ارتباطاً وثيقاً. وحيث يحتل الجسد مكانه الأبيقوري في خضم الاهتمام الفكري والفني هذا الجسد المحموم في حاجة إلى تأكيد وجوده عبر الأخر: جسد عليل متهالك، شاذ الطباع، يتراجع دوماً إلى ظلام الخيانة والإباحية. فإذا سلبنا الإنسان معتقده ثم جردناه من إرادته وحرمناه دفء أسرته، وسفهنا قيمه وأخلاقه، لم يبق له سوى جسده، ذلك الهيكل المنخور الذي تعشعش فيه أوهام شتى، وتدفع به إلى اتخاذ فلسفة غريبة حسب ميلر: «أليس صحيحاً أن الطريق إلى السماء يمر عبر الجحيم؟ ولأجل خلاصنا لا بد أن نكون ملوثين بالخطيئة، لا بد من تذوقها كلها، الكبير منها والصغير، يجب أن نكون أهلاً لشهوتنا بواسطة نهمنا. لا نتجنب أي سموم. لا نعيد أية تجربة. لا بد أن نصل إلى حدود اقتدارنا حتى ندرك أي نوع من العبيد نحن، حتى نتمكن من بلوغ التحرر».
في الواقع، يكمن جوهر الشعر البودليري في اللعبة الجدلية: التوتر بين القمع وحلم الحرية، بين القدر والإرادة الضعيفة المستكينة أمام جلادها، بين وعي الحدود ورغبة اللامتناهي. ولذلك وضع مشروعه الشعري تحت علامة تحرير الإنسان والفن والحب وفتح الطريق واسعاً أمام الشعراء السوريالين الذي أعجبوا به ودعوا إلى السير على خطاه في تحرير العقل وتحرير المناطق الغامضة اللاواعية والرغبات المكبوتة لمناجزة الواقع، وفي تغيير المجتمع بأكمله بواسطة الفن، ولذا فإننا نشهد باستمرار هذا الاتجاه اللاعقلاني والتعسفي للمشاعر، كما نشهد - حسب بودلير- تحريراً للكبت الجائر المفروض على الغرائز الجنسية وذلك من خلال إطلاق العنان للعقل الباطن كي يعبر عن خفاياه ومكنوناته بحرية تامة: يسعى الشاعر من خلال هذا الحب وأدواته إلى شق طريق الحرية لكسر الواقع الساحق ولتجاوزه ولهدم حواجز المؤسسات المجتمعية العالية: المدنية والدينية.
يصور لنا بودلير في معظم قصائده جسد المرأة في أبهى صوره وأسطعها، هذا الجسد المنعتق من كل أثقال الطبيعة الساقطة والمتفجر بالطاقة الخلاقة يجمع في أغلب الأحيان علامات الصحة والشباب. هذا الجمال البراق المشرق المنبثق من الجسد المأساوي هو حقاً الشكل المنتصر للحيوانية عند الرجل والمرأة. يشبه بودلير محبوبته بالحيوان القوي المفترس و»الوحش اللامبالي»:
«تعالي إلى قلبي أيتها الروح القاسية الصماء
أيها النمر المعبود والوحش اللامبالي
أريد أن أغرق أصابعي المرتجفة
في عمق شعرك الكث
وأن أدفن رأسي الموجع
في تنانيرك المملوءة بعطرك
وأن أستنشق الأثر الناعم لحبي الراحل
كأنه زهرة ذابلة
أريد أن أنام. أن أنام لا أن أعيش
أنام في رقاد أحلى من الموت
وسأنثر قبلاتي بلا ندم
على جسدك الجميل المصقول كالنحاس».
«نهر النسيان»
تأخذ هذه الأبيات بكل وضوح شكل مطلب جنسي وحركية مستمرة تصور اضطرام الشهوة وتوقدها. وهي تعالج أيضاً نشاط الرغبة التي تحمل طابعاً سلبياً ومدمراً.. عندما يشبه بودلير المرأة بالحيوان فهو يشارك بالقوة الفاتنة والمرعبة للحيوان المفترس الجميل.. هذا الجمال – الفخ اللاإنساني الذي يظهر بكل جماله وقبحه اللاطبيعي يخلق المرض والموت.
تتعلق الرغبة الجنسية بقوة عند بودلير بالنار المشتعلة، نار الحب الهائج المجنون الذي يلتهم أعصابه وجسده ويعطل قواه العقلية ويجعله يعيش حالة من الهستيريا العصابية تودي به إلى الانحطاط والتفتت الكارثي. في الحقيقة، لا يحتاج الإيروس البودليري إلى استعارة طرق محررة يرسمها وعيه، فهو يصرح بلغة مباشرة ويعري الرغبة دون الاختباء تحت دلالات معقدة. يدعي بودلير أن حبه الحسي يختلط بالحرية وبالشعر، ويعتقد أن هذه القوى الثلاثة قادرة على مساعدته على التحرر والخلاص، ولكن النصر المنشود يبقى هشاً ومهدداً بسبب نفاذ صبر الرغبة المتفلتة من أية رقابة قانونية أو أخلاقية. لقد أكد بودلير بقوة في قصيدته المدانة «نساء شقيات» أن الحب والأخلاق لا يتلاءمان:
«ليلعن إلى الأبد الحالم عديم الجدوى
الأول الذي أراد في سخافة عقله
وقد أكب على مسألة عصية وعقيمة
أن يشرك بشؤون الحب الأمانة
فالذي يروم أن يجمع في وفاق روحي
الظل مع القيظ والظلمة مع النور
لن يدفئ أبداً جسمه العاجز
بتلك الشمس الحمراء المسماة الحب»
يسعى بودلير إلى تغيير الشرط الإنساني من خلال تحرير رغبات الجسد. وهذا مظهر من مظاهر حداثته الشعرية المنحطة التي كان يفتخر بها لأنه كان يعتقد اعتقاداً جازماً أنه يدافع عن الجمال ويرتفع به نحو عالم المثال ويستغرق فيه استغراق المتبتل في عبادته لا بل أكثر. وبهذا الشكل يثور ويغير، مصطدماً بما يخالف قيمه ورؤاه الرمزية، معتبراً نفسه بطلاً ثورياً مخلصاً من دنس الواقع وسلبياته. ويوجه الفن والحب الجنسي نحو التحرير العام للإنسان، وبهذا الشكل يؤسس فلسفة الوجود التي يحاول فيها تحقيق ذاته من خلال القوة الصرفة للانطلاقة الحيوية للإيروس البدائي- حسب المنظور النيتشوي- الذي يعتقد أن التخلص من الضعف لا يتم إلا باستعادة الطاقة الحيوية البدائية: «لا بل إلى ما هو سابق عند الإنسان على الغريزة أي «الحاجة» و»الرغبة» في تمتماتها الأولى، أو أيضاً وبتعبير أدق خلجات الجسد الأولى في اندفاعاته العفوية التي تجعله ينزع نحو جسد الآخر حيث يجد اكتماله في اللذة الجنسية».
وهكذا يمكن القول إن الكتابة الشعرية تشكل عند بودلير نمط تعويض خاص تحرره بواسطة طاقة الرغبة التي تتحول إلى طاقة إبداعية. ما دام بودلير قطع كل تواصل مع الأخلاق فلقد أعلن وتبنى علانية وصراحة سلوك الانحراف والشذوذ تحت اسم الجديد والإبداع والتحديث. وبالتالي قطع كل تواصل مع الحقيقة المتعالية أي المعرفة الأولى. عالمه تخيلي واهم لا يأتي من شيء ولا يقود إلى شيء سوى إلى فوضى التدمير الفكري والأخلاقي. لقد هدم بودلير الجسد بإغراقه في اللذة والخطيئة والابتذال وبالعودة إلى ديونيسوس.
المرأة بالنسبة إلى بودلير كائن توفيقي: فهي تكتسب الدور المزدوج للقربان الشهواني وللمثل الأعلى للجمال، وهي صلة وصل بين عالم الزمن الذي طرأ عليه الفساد والخاضع للشر كما يظهر لنا ذلك جلياً في واحدة من أجمل قصائد بودلير «جيفة» وتعالي جمال العالم اللازمني للجواهر المرأة هي تلك التي يقول لها بودلير: «إني أكرهكِ بقدر ما أحبك»، لأنها تحمل بداخلها التوفيق بين الجمال والرذيلة. وبهذا الشكل فهي أيضا غارقة في السأم والكآبة.
يشعر بودلير بشهوة ظاهرة في تصوير جسد المرآة المتحلل المتعفن وأحياناً بصور ذات واقعية مصبوغة بذوق سيئ ترتكز على الجمع غير المألوف بين الرعب والجمال، وهذا ما نجده واضحاً في قصيدة «جيفة» حيث يصور الشاعر جثة كريهة متفسخة عبر فيها عن المرأة حينما تفقد سحرها عند الموت ويذوي جمالها دون أن تستثمر في المتعة والنشوة واللذة الجسدية.. لقد أدرج بودلير «المرأة الحديثة» في قصائده، هذه المومس «الأنثى- المتسكعة» رأى بودلير المتسكع «ذاته المتسكعة» فيها، و»لقد سبق بودلير غوغان في رسم هذه الحياة البدائية، بل في تركيز شعره على موضوعات أخرى من صميم الحياة الحديثة كانت مهملة في السابق وهي بالدرجة الأولى حياة البغي أو المومس. وبودلير ابن مدينة باريس أواخر القرن التاسع عشر، وقد عاش فعلاً مع هذه الفئة من الناس وخبرها»:
«أتذكرين يا نفسي الشيء الذي رأيناه
ذات صباح صيفي منعش
على منعطف طريق ضيق
هذه الجيفة الكريهة الراقدة على سرير من حصى
ساقاها إلى أعلى كالمرأة الشبقة»
«جيفة»
يحمل شيطان بودلير دلالات غريبة أخرى أكثر قرباً من منظور أدبي صرف؛ إنه مرتبط بالزمن وإذاً بالموت، زد على ذلك فهو المعلم في البحث عن الجمال دون أن يحمل رسالة أخلاقية، إنه ببساطة حاضر هنا مثل الوعي المرعب للزمن الحاضر الذي يمر، زمن يثير كل خيبات الأمل، وإذاً كل الرذائل: فالرذيلة تنحدر من الزمن الذي يمر والجمال من بحث جوهري عن الخلود. ويبقى الشر وسيطاً وحافزاً للبحث. وهكذا فإن «قصائد الثورة» بدلاً من أن تكشف عن «معركة روحية» فإنها تشهد خصوصاً اهتمام ومثابرة بودلير للاستنزاف، لتلذذه المعذب:
يضطرب الشيطان بغير انقطاع إلى جانبي
يسبح من حولي كهواء لا يمكن لمسه
فأبتلعه وأحس به يلهب رئتي
ويملؤها شهوة آثمة أزلية
وأحيانا ينتهز حبي الكبير للفن
فيتخذ شكل امرأة بارعة الحسن والجمال»
«الهدم»
تحتل كل مصادر هذه الموسوعة الشيطانية حيث التدنيس والسباب والشتيمة مكاناً مماثلاً للفراديس المصطنعة وللجريمة وللباطنية السوداء. ولأن الشيطان الزمني والساكن في جسد الشاعر يسير به نحو مهاوي الرذيلة واليأس، ويشكل وسيلة للبحث عن الجمال، فإننا نستطيع أن نلاحظ بشكل منطقي جداً أن وظيفته الأساسية هي ترميز العالم الأرضي كما يدركه بودلير، هذا العالم الذي يتعارض مع الرؤى اللامتناهية والكاملة لعالم المثال الأعلى للجمال. يقلب بودلير المعايير متجهاً بشكل طبيعي وبكليته نحو الشيطان، ويناديه بذل وانكسار، ذلك الملاك الهابط، المطرود، المظلوم، ولكنه – كما يراه بودلير – متأنق عال وسام في قوة رفضه وهامشيته. ويتوسل إليه لينقذه ويخلصه من بؤسه وغربته:
«أنت يا أجمل وأبرع ملك بين الملائكة
يا ملاك خانه الحظ وحرم من المديح
أيها الشيطان ارحم بؤسي الطويل
يا أمير الغربة يا مظلوماً
يا من إذا قهر نهض دوماً أقوى وأصلب
أنت يا من تعرف كل شيء
يا ملكاً عظيماً للخفايا
وشافي الإنسانية من قلقها وروحها»
«تراتيل شيطانية»
يطلب بودلير الرحمة والشفقة من مستعبده ومعذبه ومذله، لا بل إنه يتحدى منتحراً، ويتجرأ على إثارة «صلاة» شيطانية لهذا الملاك المتمرد الذي هزم بعد سيادة ومجد. يكيل له المديح طالباً القرب والراحة «تحت شجرة المعرفة» التي يظن أن هذا الملاك المنحط ذاق طعمها:
«في أعالي السماء حيث كنت تسود
وفي أعماق جهنم
حيث تحلم بصمت بعد هزيمتك
دع نفسي تسترح يوماً بقربك
تحت شجرة المعرفة
في الساعة التي تنتشر فيها أغصانها
كأنها هيكل جديد»»تراتيل شيطانية»