تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


طبيعة العنف .. إشكالية التفكير الإنساني المدمر

ملحق ثقافي
13/11/2012
إريك فروم/ ترجمة عبد الرحيم حسو:في هذا المقال المؤرخ عام 1969، والمقدم لكتاب كولير السنوي، يستعرض فروم عدة تفسيرات للعنف الإنساني. قائلاً بأن فرض قوانين أكثر صرامة لا يجدي ولن يوقف العنف،

بل الأهم والأجدى هو خلق مجتمع أكثر إنصافاً، يتواصل فيه الناس مع بعضهم البعض كبشر، بحيث يسود فيما بينهم روح الحوار والتفاهم والسلام.‏‏

‏‏

هل نعيش في زمن عنف استثنائي؟‏‏

يبدو من السهل أن نجيب بنعم على هذا السؤال. ولكي نكون مقتنعين بأننا نعيش في زمن عنف استثنائي، يكفينا أن نفكر بما حصل من اغتيالات لكل من الرئيس جون كينيدي، مارتين لوثر كينغ، والسيناتور روبرت كينيدي، وأن نفكر بأعمال الشغب في واتس - كاليفورنيا، ديتريوت- ميشيغن، وفي غيرها من مناطق المدن، في عنف البوليس، الحرب في فيتنام، وفي نسبة الجريمة المتصاعدة.‏‏

بيد أن الجواب ليس سهلاً كما يعتقد الكثيرون.‏‏

في المقام الأول، يجب علينا التمييز بين العنف ضد الأهالي والعنف ضد الممتلكات. فهناك بون شاسع بين تعذيب وقتل الأهالي وبين سرقة وتدمير الممتلكات. والذين لا يميزون بينهما، هم فقط أولئك الذين عدموا التمييز بين الحياة وبين هذه الممتلكات.‏‏

أضف إلى ذلك، ينبغي علينا التمييز بين العنف العرضي الذي قد ينشأ من أعمال احتجاج معينة أو بسبب التأكيد على رؤى معينة، والعنف المقصود، الذي يهدف إلى الاعتداء على الآخرين.‏‏

وعلى الرغم من أنه ليس من السهل رسم خط واضح بين هذين النوعين من العنف، إلا أنه عموماً يمكن التفريق بينهما كتمثيلين متمايزين.‏‏

إن العمل على تطبيق القانون والنظام باسم إيقاف العنف يمكن أن يكون هو ذاته تعبيراً عن العنف. فقد يكون، وغالباً ما يكون، رغبة متأصلة في استخدام القوة لقمع الآراء والمواقف التي يحظر التصريح بها.‏‏

إن «القانون والنظام» هو شعار مشحون عاطفياً يطلق عادة ضد عنف أقلية، في حين قد يكون المزاج الدافع وراءه هو بنفس العنف الذي جاء أصلاً لمكافحته.‏‏

لقد قيل الكثير مؤخراً عن نسبة الجريمة المتصاعدة، والإحصائيات المعلنة أدخلت الرعب في قلوب الكثيرين. لكن الإحصائيات، هنا كما في أي حالة أخرى، قد تكون مضللة.‏‏

لقد كانت الإشارة من الاختصاصيين بأنه، ولظروف عدة، لا يرقى الازدياد الحقيقي في نسبة الجريمة إلى القدر المروع الذي تظهره الإحصائيات. لعله من المفيد أيضاً أن نوضح المفهوم، ليس بمصطلحات سلوكية، بل ذاك العنف الذي ينطلق من دوافع تحريضية، متصلة الجذور بالكراهية والتدميرية.‏‏

‏‏

بعد كل هذه الإيضاحات، يبدو بالفعل أن مزاج العنف، بكل الأحوال، هو في ازدياد. من المحتمل ألا يكون أعلى مما هو الحال في فترات تاريخية كثيرة، وبهذا المعنى فلا يستطيع المرء أن يقول بأننا في زمن يتسم بالعنف خصوصاً. ولكنه أعلى مما يتوقعه المرء بالنسبة لمجتمع ثري ومتعلم ولديه كل الإمكانات الموضوعية لحل مشاكله الاجتماعية والاقتصادية في المستقبل المنظور.‏‏

إن الكراهية والتدميرية هي دوافع تعيق التفكير العقلاني والموضوعي وتساهم بسهولة في خلق استقطاب يعمل على تعزيز بعضهما للبعض على كلا جانبي الطيف السياسي. وبما أن مستقبل الجنس البشري يعتمد، في اعتقادي، على تخطيط عقلاني على أساس الفهم المتبادل، لذلك فإن دراسة العنف تكتسب أهمية خاصة.‏‏

هل العنف متأصل في الطبيعة البشرية؟‏‏

إن الجواب على هذا السؤال هو إيجابي وقديم. من توماس هوبز إلى سيغموند فرويد إلى كورنالد لورنز، فقد كان الافتراض هو أن الإنسان حيوان عدواني بالغريزة. هذا الافتراض افترضه فرويد في مفهومه عن غريزتي الحياة والموت وكذلك افترضه المحللون الفرويديون الذين لم يلحقوا بفرويد في هذا الافتراض لكنهم قالوا بوجود غريزة تدميرية في الإنسان. أما لورنز فيشاطر مفهوم الغريزة العدوانية ويربطها بالافتراضات حول العدوانية المتأصلة في عملية تطور الإنسان من الحيوان.‏‏

وبحسب المحللين النفسيين وكذلك لورنز، فإنه يتم إفراز العدوانية في عملية تلقائية داخل النظامِ العصبيِ. فتنمو وتتراكم ولا بد من التعبير عنها إذا لم يُرَد لها الانفجار ضد إرادة صاحبها أو رغماً عنه.‏‏

العدوانية بهذه الرؤية لا تحتاج إلى أي منبه أو محفز خاص. فهي تنشأ بذاتها ولا تحتاج إلى تلك المحفزات إلا لتضرم النار فيها. فحسب لورنز في كتابه عن العدوانية، نحن لا نمتلك العدوانية لأن لدينا أحزاباً سياسية مختلفة، بل لدينا أحزاب سياسية مختلفة لأن العدوانية تجري جريان الدم في عروقنا.‏‏

لا بد هنا من عدة إيضاحات على هذه النظريات:‏‏

فالعدوانية يمكن توجيهها إلى نشاطات لاتدميرية نسبياً، مثل الرياضات المختلفة، بحيث يمكن أن تصل في النهاية إلى حد متوازن بالتنمية المتزايدة للحب. لكن لا تزال النقطة الجوهرية هي أن العدوانية تفرز بانتظام كنتيجة لعمليات كيميائية معينة في النظام الفيزيولوجي العصبي. ومن هنا فإن الإنسان تواجهه مهمة التحكم بالعدوانية الصاعدة وإيجاد أفضل المخارج المناسبة والمفيدة لها.‏‏

نظرية فرويد حول غريزتي الموت والحياة تفترض بأن النزعات التدميرية هي في عراك مستمر مع نزعات الحياة. علاوة على ذلك، فإن الميول التدميرية إما توجّه إلى نفسها، مسببة المرض أو الموت، أو توجه إلى الآخرين.‏‏

إن الرأي القائل بالطبيعة الفطرية للعدوانية والتدميرية في الإنسان لها نظيرتها في الآراء المعاكسة المتعلقة ببعضها البعض إلى حد ما. فإحداها، وقد طرحت من قبل فلاسفة التنوير الفرنسيين، تؤكد بأن الإنسان خيّر بطبعه وأنه تدميري فقط لأن الظروف الاجتماعية تفسده.‏‏

رأي ثان، وهو ما يراه الكثيرون من علماء النفس، يقول: بأن العدوانية- التدميرية ليست غريزية، سواء بالمعنى الفرويدي أو بما يراه لورنز - وأنها ليست متأصلة في الطبيعة البشرية بحد ذاتها، لكنها، بالأحرى، تأتي بالتعلم. من وجوه عديدة فإن هذه النظرية أقرب إلى النهج العلمي منه إلى الموقف الذي كان سائداً إبان عصر التنوير.‏‏

رأي ثالث، وقد قدم أصلاً من قبل جون دولارد وزملائه، يقول: بأن العدوانية هي دائماً نتيجة للإحباط. وهذا يعني بأن الناس لا يصبحون عدوانيين إذا لم يكونوا محبطين، وبتعبير أخر، فإن العدوانية بحد ذاتها ليست متأصلة في الطبيعة البشرية.‏‏

إن هذه الآراء حول السبب وراء العدوانية والتدميرية في الإنسان تظهر صعوبات نظرية جدية.‏‏

المشكلة الأساسية في فكرة أن العدوانية هي غريزة يتم شحنها بطاقة متزايدة تلقائياً تكمن في التغيّر الهائل للعدوانية بين الأفراد والمجتمعات. يظهر الدليل السريري والأنثروبولوجي بأن هناك أفراداً ومجتمعات بدرجات متدنية جداً من السلوك العدواني والتدميري- سواء أكان نحو الخارج أم ضد أنفسهم- وأن هناك آخرون تكون التدميرية فيهم بكلا الاتجاهين عالية جداً. فإذا كانت العدوانية شيئاً غريزياً مثلها مثل الجوع والرغبة الجنسية، فإنه من الصعوبة بمكان تفسير الاختلافات الدرجية لكل من العدوانية والسلوك التدميري.‏‏

إن التفكير البيولوجي الصرف يضعف أيضاً مبدأ المشابهة بين الغريزتين الجنسية والتدميرية. فمن وجهة نظر الغائية «بأن العمليات الطبيعية تجري لهدف ولغاية»: الطبيعة مهتمة بتكاثر الجنس، ومن هنا يفهم بأن الرغبة الجنسية تتمثل في شعور دافع على الدوام.‏‏

لكن الأعمال التدميرية لها وظيفة البقاء على قيد الحياة فقط في حالات الهجوم، بالتالي فإن الافتراض بكونها تتبع نفس النمط كما الرغبة الجنسية هو شيء يعوزه المنطق البيولوجي. ولاسيما أن الدراسات الفيزيولوجية العصبية تشير بأن المركز العدواني هو في الدماغ السفلي، حيث يمكن تحديده، والحد منه بمركز تثبيطي، فلا يؤدي إلى تطور في تدميرية ذاتية- الحركة.‏‏

إن الافتراض المتعلق بالتأثير الوراثي للعمل العدواني الحيواني على الإنسان يتناقض مع حقيقة كون الثدييات، خصوصاً القرود، أقل عدوانية وتدميرية من الإنسان بكثير. فليس هنالك من قتل تقريباً لأعضاء النوع الواحد، كما أن ليس هنالك من اشتهاء في قتل أعضاء من الأنواع الأخرى.‏‏

من الناحية الأخرى، فإن الافتراض القائل بأن الإنسان خيّر بطبعه وأن التدميرية والكراهية يحصلان فقط بالعادة والاكتساب، فلا يبدو أنه آخذ في عمق حسابه ما يكفي لتفسير شدة وشيوع ما يحصل من العنف والكراهية والتدميرية في تاريخ الإنسان. فتدميرية الإنسان أكثر حدة وانتشاراً مما هو حاصل في مملكة الحيوان، فلا بد من التفسير بأن ذلك يعود لظروف محددة أكثر من كونه إرثاً حيوانياً أو ضرورة فيزيولوجية عصبية ما. وأي محاولة لإيجاد شروح لأسباب العنف ينبغي أن تبدأ بتمييز الأنواع المتعددة للعدوانية المختلفة نوعياً عن بعضها البعض والتي لها مصادر مختلفة كلياً.‏‏

طالما أن المرء يستخدم، من جهة، كلمة «العدوانية» عندما يجري الحديث عن سلوك طفل لم يُمنع من محاولة الحصول على ما يريد، ثم يستخدمها، من جهة أخرى، إذا جرى الحديث عن أعمال قاتل، فلن يستطيع أن يصل إلى فهم لمصادر السلوك التدميري أو العنيف.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية