|
بسبب الغلاء المعيشي ... ما هي حدود التغيير في العادات والسلوك?! مجتمع وبعد موجات الغلاء التي تكررت وشملت جميع السلع الاستهلاكية وأصابت غالبية الناس بالاكتئاب لابد من الوقوف بجدية لمعرفة الواقع المعيشي اليومي لمئات الأسر, بل آلاف الأسر السورية, والنظر كيف يتدبرون أمورهم الحياتية وأمور أطفالهم من صحة وتعليم وغذاء وحول الأثر النفسي والاجتماعي الذي أنتجته هذه الأوضاع المعيشية الجديدة. وللسؤال عن نوع التوازن المادي الذي حققته الزيادة الأخيرة في الرواتب? الأوضاع المعيشية نزلنا إلى الشارع (محلات, أسواق شعبية, أحياء متفرقة) وحكايات كثيرة ومتشابهة تصب في وعاء الأجور المتدنية والفقر والأسعار المرتفعة, ففي سوق صفد التقيت أم رزان, عمرها بالأربعينيات وتصطحب معها طفلتين, قالت بحياء إنها تشتري ملابس أسرتها من هذا السوق لأنه الأرخص ويناسب حالتها المادية, وعندما سألتها ماذا تقصد بحالتها المادية قالت: ثلث الراتب يذهب آجار للغرفة والمطبخ الذي نسكنه, وما يبقى من الراتب يذهب للطعام والشراب واللبس والمرض والحمد لله إن بناتي صغيرات ولا توجد مصاريف مدرسة. أما عن المواد الاستهلاكية الغذائية فإن أم رزان تذهب إلى محلات الجملة وتشتري ما هو ضروري جداً فقط (سائل للجلي, فلت بالنصف كيلو, زيت قطن بالكيلو غير مكرر, تختار أنواع المعكرونة والأرز الأرخص.. إلخ. وفي سوق الخضار القريب من شارع صفد التقيت أم مصطفى التي أكدت أن معظم ما يدخل منزلهم من أجور تذهب لشراء الطعام والشراب مع أن أفراد أسرتها عددهم قليل إذ لديها ثلاثة أولاد, مشيرة أن ما يبقى من المدخول بالكاد يسد بعض الأمور الأخرى ولذلك هي تبحث في السوق عن السلع الأرخص وتراقب الأسعار ثم تقوم بموازنة يومية بين ما تريده من حاجيات وما يمكنها شراؤه, وكثيراً ما تؤجل شراء حاجات ضرورية لأنها غير قادرة على ثمنها. ثم قالت عن شراء الملابس إنها اختصرت هذا الأمر لمرتين فقط في العام وطبعاً من سوق فلسطين أو من البسطات, ونادراً ما تشتري قطعة ملابس لنفسها. أبو حاتم قال لنا: يصعب الاقتراب من اللحوم والفواكه, ومم تشتكي الخضار? ألا تعوض قليلاً? ثم قال لماذا الرز ألا يكفي البرغل? وطبعاً استبدال السلع بالسلع الأرخص أصبح أمراً طبيعياً لتصبح مع أبي حاتم موازنة الدخل مع حاجة الجوع. يحلمون بحياة كريمة هؤلاء جميعاً قالوا لنا بلغتهم البسيطة إن المشكلة ليست بغلاء الأسعار فقط, بل بالدخل والأجور المتدنية وغير الكافية حتى لسد متطلبات الحياة العادية والضرورية, فهل يعقل أن يأكل أبو جاسم كيلو لحمة في الشهر وفروجاً مشوياً واحداً في الشهر هو وأسرته, في حين مدخوله الشهري لا يكفي إلا للأشياء الضرورية, وإن فعلها ماذا سيصنع باقي أيام الشهر? وبالطبع إن أرباب هذه الأسر يحلمون بحياة كريمة فيها غذاء جيد وملابس جيدة وتعليم وصحة وترفيه وغيرها من الحاجات الطبيعية للإنسان لكن المعوقات كثيرة وخارجة عن إرادتهم. وعودة إلى الناس في سوق المزة ورداً على سؤالنا (كيف تدبر أمورها?) أجابتنا الحاجة أم أحمد: هذه الأيام أعادتنا إلى أيام زمان في طريقة تحضير وتجهيز المونة للسنة القادمة, إذ أستغل وجود الخضار في موسمها والتي تكون أرخص لأجففها أو أضعها بالفريزة للشتاء, لأنها ستصبح أضعاف سعرها وطبعاً المواد التي اضطر عليها فقط, وهذه الطريقة تساعدني على توفير بعض المال. اختلفت توزيعات الراتب أما أبو عمار الذي التقيته في سوق الجمعة في منطقة ركن الدين فقال: بعد هذا الغلاء اختلفت توزيعات الراتب, إذ أصبحنا ندفع أكثر, للطعام وللمواصلات وللمحروقات و... ولهذا نحاول أن نقتصد في مصروفنا وحسب الأولويات والمشكلة اليوم أننا نعيش عصر التكنولوجيا والعلم والتقنيات, والعائلة التي لديها أكثر من ثلاثة أولاد بحاجة إلى دورات تدريب على الكمبيوتر أو دورات تقوية للغات الأجنبية, إضافة إلى دورات تقوية للشهادات, فكيف سيكون الحال بعد كل هذا الغلاء فهذه الدورات هي بالأساس أسعارها مرتفعة وفي كل سنة ترفع أقساطها وبالطبع دون أي تعديل على برنامجها. يبحثون عن الأرخص وفي العديد من المحلات الصينية التي انتشرت هذه الأيام بشكل لافت للانتباه, وجدنا الكثير من العائلات منهم من يشتري ومنهم من يجوب المحال ذهاباً وإياباً ويخرجون دون أن يشتروا, حيث قالت لنا إحدى السيدات: إنها تجد أسعار المواد أرخص هنا ولاسيما بعض الأواني المنزلية, وملابس الأولاد, ولاسيما أن ملابس الأطفال في الأسواق مرتفعة جداً, على الرغم من أنها ليست أفضل من ناحية الجودة, ولكن تجدها أرخص ولاسيما ألعاب الأطفال وأشكالها التي تجذب الطفل (وبنص حقها). وتقول جارتها: إنها تحسب ألف حساب عند الشراء, ولا تحاول شراء إلا ما هو ضروري وهي على العكس أصبحت تتردد على أسواق الجملة لتوفر المال وتشتري من أسواق الملابس المستعملة (البالة) لأنها تجدها أرخص, ويمكنها شراء أكثر من قطعة فعدد عائلتها خمسة أشخاص وزوجها يعمل ويأخذ يومية ولا يمكنها صرف ما يأخذه على الملابس وأدوات المنزل, وإنما على ما هو أهم. ويقول أبو محمد: كنت في سوق المزة واشتريت بعض الأغراض وقد وجدت سعرها مغايراً للمواد في الحميدية أو في سوق آخر على الرغم أنها نفس المادة ونفس المصدر واستغرب من الفرق الكبير في الأسعار, ولاسيما للمواد المحررة, فكل تاجر يبيع على مزاجه والمواطن الشاطر هو الذي لا يشتري. الأثر الاجتماعي : تقلص عادات الضيافة والفرح كل ما ذكرناه لا يعبر إلا عن جزء بسيط من حرارة الشارع ولكن ما يهمنا أيضاً معرفة أثر ذلك على الحياة الاجتماعية وسلوكيات الناس? الأستاذ رضوان الإمام مدرس الإرشاد الاجتماعي في جامعة دمشق سابقاً قال: ليس الغذاء والشراب هي الحاجات الوحيدة للإنسان فهناك حاجات كثيرة ومتطلبات يجب أن تتوفر للإنسان ليعيش حياة اجتماعية ونفسية متوازنة, وهذا لا يتوفر إلا من خلال توفير الصحة والتعلم والحياة الكريمة, وعكس ذلك فإن حياة الأفراد تسير نحو الانحدار السلوكي والأخلاقي خاصة فيما يتعلق بالأمور الاقتصادية (السرقة, الرشوة, الفساد). ولأنه من غير المعقول أن يكون متوسط دخل الفرد في السنة أقل من خمسين ألفاً, بينما تكاليف المعيشة في العام الواحد تتجاوز خمسة أضعاف هذا المبلغ, وبالتالي يكفي أن نسأل كيف سيوفر ذلك, إن لم يلجأ إلى الانحراف أو الفساد بأشكاله المختلفة والتي منها التسيب الوظيفي حيث يقول غالبية الموظفين إن راتبهم لا يكفي, فيكون الإهمال لعملهم ردة فعل على وضعهم المادي, ومن ثم البحث عن أعمال إضافية أو الرشوة. ومن جهة أخرى نحن نلاحظ كيف بدأت الأسر تنطوي على نفسها وتتخلى عن الكثير من العادات الاجتماعية التي كانت سائدة مثل الكرم والضيافة, تبادل مظاهر الفرح والحزن مع الآخرين, كل ذلك بدأ يتغير مع ارتفاع تكاليف المعيشة, وحل محله الهروب من استقبال الضيوف, والصراع على مصروف البيت, والعنف بين الأفراد ورافق ذلك تقليص لمظاهر الفرح مثل الخطوبة أو الأعراس التي أصبحت تقام بحضور الأهل فقط, وتحجيم للعلاقات مع الجيران والأهل والأصدقاء خوفاً من المصاريف التي هم بحاجة لها في أمور حياتية هامة, وطبعاً ذلك شكل من أشكال تدهور العلاقات الاجتماعية وإضعاف لبنية المجتمع. المطالبة بزيادة الأجور خطأ اجتماعي كيف انعكست موجات الغلاء التي طالت كل شيء على الوضع الاقتصادي على الأسرة, ومن هم الفئات الأكثر تضرراً? وكيف يمكننا الحد من تلك الآثار ومن الجهات التي من المفروض أن تقدم لهم يد العون?.. أسئلة كثيرة أجابت عليها الدكتورة ليلى جزائرلي - كلية الاقتصاد, وقالت: من المفروض أن يكون قد حصل نوع من التوازن بعد زيادة أسعار المازوت وعملية زيادة الأجور والرواتب. وإن موضوع المطالبة في زيادة الأجور والرواتب هو خطأ اجتماعي يرتكبه الناس, إذ يطالبون بالزيادة وبعدها سيشعرون أنه أصبح لديهم قدرة شرائية أكثر, ولكن هذه الزيادة ستنعكس اقتصادياً على ارتفاع الأسعار وبالتالي فإن عملية زيادة الأجور, لن تكون حلاً, بدون زيادة الإيرادات التي تعود إلى الدولة, أي لابد من توازن بين الإيرادات والنفقات, فعلى مستوى التوازن الاقتصادي الكلي يمكننا القول إن العملية مدروسة, ومن المفروض أن لا تؤثر على أصحاب الدخل المحدود, ولكن من ناحية ثانية إن زيادة أسعار المازوت أحدثت انعكاسات, لأن المازوت مادة أساسية للمنتجين, وللنقل, وكمادة أولية لبعض المواد, وبالتالي انعكست هذه العملية على غلاء أغلبية السلع, وأحدثت ضغوطات على راتب الموظف ولاسيما للعائلة التي لديها أكثر من خمسة أفراد ويحتاجون لاستعمال وسائط النقل يومياً ذهاباً وإياباً, ولكن بالمقابل نلاحظ أنه قل الضغط على المواصلات, وأصبح كل من ليس لديه عمل لا يخرج ويفضل البقاء في البيت كي يقتصد من مصروفه. صحة القرار من صحة المعلومة وتؤكد د. الجزائرلي على أهمية دقة المعلومة لإعطاء قرار اقتصادي صحيح, فلابد من وجود أرقام مدروسة وصحيحة, وتضيف أنه ليس لدينا نقص بالدراسات وإنما نقص بالمعلومات, والأرقام الإحصائية الدقيقة, فأية معلومة اقتصادية ليست لديها أرقام إحصائية صحيحة, فلن يكون القرار ناجحاً فمعظم الأحيان تكون للمعلومات ثلاثة أرقام من المكتب المركزي للإحصاء, ومن البنك المركزي وأرقام من الهيئات والمنظمات الدولية, إضافة لهذا إن الكثير من الأفراد والتجار لا يصرحون عن المعلومة الصحيحة فيما يتعلق بالأمور (المالية والضرائب...). مسؤولية من?! هناك تغيرات في المكتب المركزي للإحصاء للحصول على معلومات دقيقة بالمستقبل ويوجد سعي حثيث للتأكد من المعلومات وستكون هناك دراسات ميدانية وبرامج إحصائية متطورة, فالعلم موجود وليس محتكراً على أحد, ولدينا خبرات جيدة والأهم من هذا كله معرفة الرقم الصحيح, وبناء عليه يكون القرار وبالتالي إذا أثبت أن أصحاب الدخول المحدودة هم الذين تضرروا جراء ارتفاع الأسعار, فلابد من تنشيط المؤسسات الاجتماعية ذوات الدخول المحدود مثل: مؤسسة التأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي وإعطاء العاطلين عن العمل تعويضات, وهنا تأتي مشكلة التأكد من أنهم عاطلون عن العمل, فالكثيرون يسجلون في مكتب التشغيل على أنهم عاطلون عن العمل لأنهم لا يعملون في القطاع العام ولكنهم يعملون بالقطاع الخاص والهدف الحصول على تعويض التأمينات الاجتماعية. ويجب التأكيد على عمل المؤسسات التي تدعم العمل الاجتماعي والتي تساعد النساء اللواتي ليس لهن عمل ومعيلات بذات الوقت إضافة لإعالة الأسر الكبيرة ذات الدخل القليل وهذا كله يحتاج لمعرفة احصائية دقيقة عنهم, ويجب ألا نخاف من المعلومة الصحيحة مهما كانت, والمشكلة أننا نخافها ولابد من التأكيد على التخطيط والتنظيم من أجل تحقيق ذلك. المنافسة الشريفة لتحرير الأسعار ورداً على ما تحدث به الناس عن مشكلة فلتان السوق والتفاوت الكبير بين أسعارها على الرغم من أنها من ذات النوع, وانتهاج الحكومة منطق تحرير الأسعار حلاً للمشكلة قالت د. الجزائرلي: كان لابد من تحرير الأسعار, لأنه قبل ذلك كانت المواد تباع في السوق بدون رقابة وهي للناس القادرة على الدفع, ولكن حالياً بتحرير تلك السلع والحاجات تباع بسعر أعلى والهدف ليس رفع الأسعار وإنما تهيئة منافسة شريفة لأنها ستؤدي إلى انخفاض الأسعار, ولأن الناس سيذهبون لشراء السلعة الأرخص ولهذا سيضطر التاجر لتخفيض سعر المواد لديه حتى تباع وهكذا يفعل غيره.. إلى أن يصلوا إلى سعر مناسب للجميع, ولكن الذي يحدث على أرض الواقع عكس ذلك, حيث تبقى الأسعار مرتفعة والسبب عدم وجود المنافسة, والذي يتحكم بسعر المواد ويحتكرها هو التاجر الذي يستوردها.
|