إنه فضاءُ وحنجرة وصوت «ريم البياتي».. الشاعرة التي أبتْ إلا أن تجعل من قصائدها، صرخة تنادي: يا بلادي.. «سوريَّة» التي وثَّقت معاناتها على مدى الحرب التي شهدتها تُذيقها المُرّ، وعلى مدى محاكاتها لها وهي ترنو إلى «فتى الجسر»: /يأتي الحمامُ لطُهرهِ يتيمَّمُ/ ويحطُّ في دعةٍ فلا يتبرَّمُ/ القلبُ ساحٌ للسلام/ وديارُ أسرابِ اليمام/ فإذا وصلتِ ديارهُ عند المغيب/ فترفَّقي لا تُفزعيهِ/ وعلى يديهْ/ حطِّي بصمتٍ واقرئيهْ/ منّي لعينيهِ السلام/ بين البداية والنهاية والحنين/ جسرٌ وسارية العبور/ ويدان تمتلكان مفتاحَ الأزل/ والجسرُ مزهوٌّ ويعرفُ ماحملْ/ يحنو ويحني كتفهُ/ لتحطَّ أسرابَ الطيورِ وتنقد الحبَّ الذي ألقاهُ قدِّيس الأمل/.
هذا مانادت به «البياتي» الناطقة بحرفِ شمسها، والطالعة من أرضِ عشقها.. الشاعرة التي أشهرت قصيدتها سلاحاً يواجه قوَّاد الحقد والشَّر والقتل والخراب، وبعد أن شهدت ما اقترفوه في وطنٍ، استشرى الفراق فيه، فباتت تغنِّيه «ناديتُ فانتبهَ الغياب»: /سفرٌ كعادتهِ طويل/ فابقوا/ أحدِّثكم عن المطرِ المعلَّقِ/ في مزاريبِ النخيل/ أو كيف مرَّوا من ثقوبِ النومِ أصحابي/ وضاعوا/ في مفازاتِ العويلْ/..
تركوا على كتفِ الطريقِ خرائط لمآلهم/ تركوا على حبلِ الغسيلِ شقاءهم/ يحصي مشاوير الفصول/ وغربةً/ خُطَّتْ بأقلامٍ تعاندُ باءهم/ حملوا ظهورهم/ وأجفانُ البيوتِ الحُمر/ والباقي من الأشياءِ/ في زمنٍ بخيلْ/.
هكذا تنجو بكلماتها من غصَّاتِ حياةٍ، كلَّما اختنقت أحيتها بـ «هزيع القصيدة»، وكلّما غفلتْ سلطتْ عليها أضواء جديدة. أضواء قصائدها التي حملتها منديل وداعٍ ولوَّحت بها سائلةً الراحلين إلى الضياع: /لِمَ ينام الطيِّبونَ على الحصى/ ولِمَ يموت العاشقون من الأسى؟!!/.
لوّحت بقصيدتها وبلَّلت أسئلتها، بـ «طينِ وماء» أوطانِ الرفاق.. الأشقاء الذين التي أهدتهم «رسائل تُسقط المطر» لتغسل الشقاء عنهم وتكحِّلهم، بما كحَّلت به أبناء العراق.. رسائل قد تكون «بلا عنوان» لكنها مرفوعةٌ بالإنسان.. بكلِّ مدينةٍ ردَّت على من اتَّهموها بأنها غريبة عنها: قلتُ المدينة لا تضيع فإنني/ في الصبح ألثم ثغرها/ ويداي تحضنُ خصرها/ وتنامُ في رئتي/ وأغزلُ شعرها/..
حتماً، هي حالة توحّد مع المدنُ التي لاتشبهُ علاقتها بها، إلا العلاقة التي يتماهى فيها «العاشقان» ببوحٍ روحيٍّ سحري.. توحد الإنسان الشاعر خاصة، وفي مفرداته المتفّرِّدة والمتَّقدة، والنازفة إن نزفَ وطنها الأزلي.
نعم، هي حالة عشقٍ جعلت من الكلمات منارة، رغمَ ظلامِ من أرادوا لكلماتنا أن ترصع «ذاكرة الحجارة».. من علَّقوا لنا مشانق الأيام، وأعدموا فينا إلا ظلال حياةٍ نستدعيها بـ «خنصر الأحلام».. من أرادونا نحزن ونتشظى ونتقهقر، ودون أن يكون لهم ما أرادوا رغم «حزني الأخضر»: في حالة العشق هذه، حلَّقت «البياتي» «على جناح الشِّعر».. أعادت اليمام على هذه الأجنحة، واستدعت أغنية اللقاءِ تترنمُ بوجعِ فراقِ أحبّة العُمرْ.. أعلنت «سنرقص في الذرا هذا المساء» وفرضت على الحياة أمومة لا يليق البوح فيها «إلا من شفاهِ الأنقياء»..
توقفتْ فتألمت، وتابعت لما رأت، ما آلت إليه فصول الحياة التي أنشدتْ فيها «لقمحِ الحجارة».. أنشدت للقمح الذي نضجت فيه مواسم الجرح، وبعد يبابُ أرضٍ، باتَ «سحابها يبلعُ دمع الشتاء/ ويمضي سريعاً كرقصِ العذارى».
تعود إلى «عتباتِ الخبز المالح» لا لتصالح ولا لتصافح أصحاب المصالح.. تعود، بحثاً عن بقاياها القديمة، وعن /آخر الناجين من خرفِ العشيرة/ وقصيدٌ أحمر العينين من زمن الهزيمة/..
تعود فلا تجد «إلا بقايا قمرٍ» تناجيه شعراً تستدعي فيه السهر.. تستدعيه لحلمٍ يتعتَّق في «بؤبؤ الصبار» فيصحو ثملاً ليرى النهار/ مضيِّعاً بنانهُ/ في كومةِ الغبار».
إنها عافية القصيدة التي أعلنت بجرأتها العنيدة: لم أعد اخشى من صدودكَ والغياب/ أغلقتُ دونكَ في شراييني وقلبي ألف باب/ طفلٌ أهدهدهُ إذا اشتهى الأمومة/ أُلبِسهُ من الخيطان روحي/ ما أشاء من الثياب/ آتيكَ من لحظاتِ صمتي/ كي أشق على الهوى/ بابٌ على أعتابِ باب/..
إنها أيضاً، اليقظة التي يُراد منها إشراقة الشرفاءِ من قصائد الشعراء. قصائد «البياتي التي رسمت مفرداتها بنبضِ دعوتها: «لشعبي الحب والحياة».. الشعب الذي وعدته بعد أن أيقظته على «أحلام الحفاة»: /لا لن تُغلَّ قصائدي/ لا لن تموتْ/ مادامت الأكواخُ تفترشُ المدى/ والكونُ من حولي صموتْ/ والنهرُ يحضنُ ما تبقى/ من ظلالٍ/ خلفَ أروقةِ السكوتْ/ والعاشقات صهيل حنجرتي/ وأعتاب البيوت/.
هكذا تتوالى إضاءات «البياتي» في ديوانٍ وإن اعتبرت أن سبب اشتعالِ مفرداته «هذيان الحطب» إلا أنها من أشعلتها لتحرق بها عدو النور، وتضيء «عين المرايا» وماتعكس من واقعنا الجاثمُ في قلبِ اللهب.
فعلت ذلك بعد أن رأت: هذا الشرق ومنذ الخلق/ يدورُ على أعقابِ التفاح/ والمفتاح/ يغادر ثقبَ الباب/ ويكفر بالأشباح/.. بعد أن رأت أيضاً: بلادي تمشِّطُ كلّ صباحٍ ضفيرةَ موتٍ/ وترخي خمارَ المواجعِ فوق الزوايا/ تدور الحكايا/..
لاشكَّ أنها حكايانا الأشبه بـ «طواحين الغبار».. ندور فيها «فوق أجنحة الهواء» وفي «أقفاصِ المرار».. حكايانا المؤرشفة في «وجع القصيد» وتتهاطلُ «دمعة وغمامة» من «نوافذ الضجر» إلى «أشواك اللحظة» التي تُجبرنا على «الرقصِ في أيكة الشوك» حيث نزيفنا باتَ قدر...
باختصار... هو أنينُ الشعر والغضب، يسري في قصائدَ تحاكي الوطن عشقاً أشبهُ بـ «هذيان الحطب»: /حتَام تحملكَ الرياح لوشوشاتِ الوعي/ للخذلان/ للصورِ المحنَّطة على جسدِ الرفاق/ للحربِ إن سقطتْ نقاط الباء/ فوق الراءِ/ في زمنِ النفاق/؟!!
/ما أحلى الرحيلُ على جناحِ الموتِ/ إن كان الطريق إلى رباك/ خذني إليكَ/ فما تزال طفولتي تحبو على وجعي/ وتُعرِضُ عن حليبٍ مُرٍّ/ من ضُرعٍ سواك/..