طفولة و صبا و شباب وكهولة فشيخوخة و فناء، هكذا كان التاريخ الإنساني دائماً و أبداً، و من خلال هذا الرصد نشأت نظريات الدورات التاريخية بكل تشعباتها.
تقودنا هذه المقدمة إلى ما يجري حالياً من تغيرات في العلاقات الدولية، وتبدلات في موازين القوة. هذه التحولات و إن كانت لا تزال في بداياتها، لكن ذلك لا يمنع من رصدها و الإمساك بتلابيبها. في هذا السياق، يمكننا القول: إن ملامح التغيير في الخارطة السياسية الكونية قد بدأت تفصح عن نفسها ببطء منذ سنوات عدة. لقد تمددت الإمبراطورية الأميركية، و أصبحت قواعدها العسكرية تنتشر على امتداد القارات، بما يعني زيادة هائلة في الأعباء و الكلفة، بما ليس في طاقة الخزينة الأميركية مقابلتها.
وإذا ما انطلقنا من المسلمات و البديهيات التي تحكم سيرورة صعود الإمبراطوريات وهبوطها في التاريخ الإنساني، أمكننا القول: إنه كلما تضاعفت مسؤوليات ومهمات الدول الكبرى، و توسعت في مشاريع الهيمنة، تضاعفت طموحاتها في المزيد من التمدد. ولأن لكل بداية نهاية، و حسب القول الصوفي، ليس بعد الاكتمال سوى النقصان، فإن الولايات المتحدة، شأنها شأن كل الإمبراطوريات مآلها الانكماش.
ويتابع الأستاذ «مكي» تحليله منطلقاً من أن أحداث الحادي عشر من أيلول عام (2001)، هي نقطة التحول في الخط البياني لنفوذ القوة الأميركي الذي برز بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، وظل هذا الخط في صعود حتى تلك الأحداث، وإثر ذلك بدأ الخط البياني الصاعد في تغيير اتجاهه إلى الأسفل. وليس على المرء سوى تصور حجم الأموال التي أهدرت في حربي أفغانستان والعراق، و في ما يعرف بالحرب العالمية على الإرهاب، وعمليات الاستنزاف التي تبعت الحربين، ليدرك مدى خسائر الخزينة الأميركية، ولتتكون له صورة أوضح عن الأزمة الاقتصادية الحادة التي مر بها العالم، و التي كشفت عنها أزمة الرهن العقاري، وهذا يستند إلى تقارير اقتصادية عالمية، ووثائق نشرتها معاهد استراتيجية أميركية، كشفت بوضوح عن تراجع قدرة الولايات المتحدة على السير ببرنامجها الإمبراطوري. وكان الأبرز في هذه التقارير، تقرير حكومي نوهت إليه محطة الـ (CNN)، توقع حتمية تراجع نفوذ و قوة أميركا، راسماً صورة قاتمة لمستقبل أميركي غير مستقر في العلاقات الدولية، مؤكداً أن العالم سيشهد انقاسمات واسعة في المواقف السياسية، وتصاعداً في الصراع على الموارد الطبيعية، وقد تأكد أن الأعباء التي تتحملها الخزينة الأميركية، هي أكثر بكثير من قدرتها، و كانت إدارة الرئيس «أوباما» تواجه هذا العجز باستمرار بمزيد من الاقتراض من دول عدة في مقدمتها الصين.
يلاحظ أيضاً تنامي الدور الأوروبي الغربي في السياسة الدولية، و بشكل خاص الدور الفرنسي والبريطاني الذي برز بوضوح في هجوم (الناتو) على ليبيا. وهذا الدور كان حتى وقت قريب ملحقاً بالسياسة الأميركية، وذلك يعني مغادرة لسياسة الإزاحة و عودة إلى مفهوم الشراكة، وتشريع التنافس بين القوى العظمى، حتى و إن لم يكن على قدم المساواة.
وفي قراءة متأنية لما يحدث الآن، نرى أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة استعادة مكانتها ودورها، يؤكد الباحث الدكتور «جمال واكيم» أن ما دعي بالربيع العربي هو في جزء منه محاولة ربيع، وفي جزء آخر محاولة تجديد أدوات الهيمنة الأميركية على المنطقة لتحقيق عدة أهداف استراتيجية. فعندما انتهت الحرب الباردة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وضعت توجيهات لإعادة رسم العلاقات الدولية انطلاقاً من منطقة الشرق الأوسط، لأن أهمية هذه المنطقة تكمن بأنها تحدد نمط علاقات القوى القائمة على المستوى الدولي. فمنذ فجر التاريخ كانت تتقاطع طرق المواصلات التجارية في هذه المنطقة، مع الإشارة إلى أن في هذا الشرق الأدنى ثلاث قوى فاعلة هي مصر، تركياو والعراق التي تتكامل مع إيران كنطاق جيو- استراتيجي واحد، يتوسطهم «بر الشام» أو سورية التي تصل بين هذه القوى الثلاث.
فعندما بدأت مؤخراً بوادر «الربيع العربي»، دخلت الولايات المتحدة على الخط لإعادة تنظيم مخططها في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى شواطىء الأطلسي غرباً بغية تحقيق عدة أهداف، أولها إحكام الهيمنة على أوروبا عبر عزلها بالدرجة الأولى عن افريقيا و أي دور مستقل فيها، بالإضافة إلى عزلها عن أي دور مستقل للتقارب مع روسيا، ثانياً و الأهم هو منع ائتلاف القوى البرية المتمثلة بالصين و روسيا من الوصول إلى شرق المتوسط من ناحية و من الوصول إلى المحيط الهندي من ناحية أخرى، و بالتالي السيطرة على هذه المنطقة تهدف إلى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. و إن التفتنا إلى ما جرى في العقد الماضي بعد اجتياح العراق، من تصاعد للمقاومة العراقية من ناحية ونجاح المقاومة في لبنان في مواجهة العدو الإسرائيلي ونجاح حركة حماس في كسر الحصار المفروض عليها في قطاع غزة، نستنتج أن كل هذه العوامل أدت إلى تزخيم المقاومة وإضعاف المشروع الأميركي في المنطقة، فكان يجب إعطاؤه زخماً جديداً عبر إعادة خلق محور يسمى بمحور الاعتدال مكون من عاصمتين عربيتين هما الرياض و القاهرة لمواجهة ما يسمى بالتمدد الإيراني، باعتبار أن إيران كانت داعمة لسورية و المقاومة في لبنان وفلسطين.
وفي تعليقه على الموضوع يشدد الدكتور«واكيم» على أن محور الاعتدال العربي فشل في المواجهة المطلوبة منه، فكان لزاماً إدخال قوة جديدة على الخط لتدعيم هذا المحور، والمتمثلة بحزب العدالة والتنمية في تركيا. وعندما نقرأ «أحمد داود أوغلو» في كتابه «العمق الاستراتيجي»، نجده يقول بكل صراحة: إن تركيا يجب أن تلعب دوراً بما لا يتناقض مع الدور الأميركي والدور الغربي في المنطقة، كما يجب أن تتوافق تركيا مع الولايات المتحدة استراتيجياً في البلقان و القوقاز و المشرق العربي، لكن الدور التركي كان يجب أن يمر عبر «بر الشام»، أي سورية .