وحين نتذكر الثورة الفرنسية، مثلاً، وهي نتاج لحقب من التراكم التنويري والتقدم المعرفي، والمعاناة البشرية، والظلم والقهر، فكانت، بحق، ثورة فاصلة في التاريخ البشري، جلبت نوعاً من الأمل والتفاؤل للشعب الفرنسي، وحملت شعارات حقيقية من مثل: «إخوة، عدالة مساواة»، وقدّمت مفاهيم وقيم جديدة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والانتخابات، ومنها انطلقت الشرارة، إلى عموم العالم، لتثمر لاحقاً، تقدماً وازدهاراً في غير مكان من أوروبا.
لكن للأسف، في الثورات المزيفة، والمبرمجة، والمفبركة، وغير الأصيلة، والتي تم تصنيعها، وطبخها في الغرف السوداء، والدوائر، إياها، والتي تطغى عليها غايات ومصالح ومنافع خارجية، أكثر مما هي حاجة مجتمعية محلية، فهي كعملية الاستيلاد المبكر وغير الناضج، قد تأتي بمفاعيل عكسية، وتداعيات كارثية، وتحمل مضامين مغايرة لما ينطوي عليه مفهوم الثورة المتعارف عليه، وتجلب الخراب والدمار، وهذا ما حصل في عموم الدول التي اجتاحتها حمـّى «الربيع العربي» القاتلة، فحوّلتها إلى عصف مأكول، و«فوضى غرّاقة»، كما تنبأت بها، طيـّبة الذكر، كوندوليزا رايس. وما تزال دول مثل تونس، ومصر، وليبيا، تعيش تداعيات مرة، ومؤلمة، وكارثية للثورات المزيفة، و«مسبقة الصنع»، والربيع الدموي المزعوم. وفي سورية، سنتناول وبعجالة، تداعيات وآثار «الربيع» والثورات» المؤمركة، وعلى مستويين بارزين، مستوى الأمان والاستقرار الذي كانت تعيشه سورية، والثاني، المستوى المعاشي والحياتي للمواطن السوري.
فكما هو معروف، لقد كانت سورية، تعتبر، وبحق، بلد الجميع، الغني والفقير، على حد سواء، وكانت مشرّعة الأبواب للزوّار، ومن دون «فيزا»، أو تأشيرة دخول، واستقبلت بكل ترحاب نازحين ولاجئين من دول الجوار، وكانت تعتبر بحق واحدة من أرخص دول العالم، معيشة، ولم يغيـّر هذا، وفي مرحلة ما، وجود اللاجئين الكثيف، من مستوى معيشة المواطن السوري، ووفرة المواد ورخصها، وكان يمكن للجميع أن يعيشوا فيها «مستورين»، وبحال من الكفاف والاكتفاء، ورغم بعض التفاوتات الطبقية، أحياناً، التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات. ولكن ما الذي حصل مع هذه المسماة بـ«الثورة»؟ ارتفاع خيالي، وفاحش للأسعار، وندرة في بعض المواد، إفقار، وتجويع، وارتفاع لبعض المواد والسلع بعشرين، وثلاثين، وأربعين ضعفاً، أحياناً، بدل أن تجلب الخير والرفاه والازدهار للمواطن، الذي زادت معاناته الحياتية والمعيشية أضعافاً مضاعفة في ظل «الربيع العربي»، و«ثورة» ابن برنار.
وعلى مستوى آخر، كانت سورية تعتبر لكثيرين، وكان ذلك واقعاً، كواحدة، من أكثر دول العالم أمناً، وأماناً، واستقراراً، وسيادة للقانون، وتعايشاً بين جميع المكونات، بسلام واحترام. وكان تصنيفها متقدماً، وتحتل الصفوف، والمراتب الأولى، على مؤشر السلام العالم، ومن الدول التي تعيش «بحبوحة» على صعد الاستقرار والأمان الاجتماعي، وندرة في معدلات الجريمة. غير أن تسونامي «الربيع العربي»، و»ثورته»، كما كان مخططاً، جلبا معهما الدمار، والفوضى، وانعدام الأمن والأمان، وانتهاك القانون، وفقدان أي قدر من الاطمئنان، في تلك المناطق التي اعتدى عليها «الثوار» الصناديد، وأصبحت عرضة للنهب، والسلب، واللصوصية، والفضائح المخجلة، والتجاوزات، وانتهاك الحرمات، وحتى «المقدسات»(1)، وتعميم الفوضى والخراب، والاختطاف، والاغتصاب، وازدياد عمليات القتل الفردي والجماعي، وغياب أي أثر للقانون، اللهم سوى قوانين الجماعات المرتزقة الخارجة عن القانون، قوانين الغاب، وغياب وتردي الخدمات التعليمية، والصحية، والاجتماعية، وازدياد عدد الفقراء واللاجئين والنازحين والمهجـّرين والجياع والافتقار لأي قدر من الوفرة والازدهار والبحبوحة، وإحياء كل تلك العصبويات والثارات والنعرات والدعوات المخجلة، وإشاعة البلاغة المتهافتة، والخطاب المقيت المريض الذي لم يكن متداولاً ومعروفاً قبل «الثورة» المزيفة العرجاء.
إنها الثورة بالمقلوب، وهذا ما جناه ربيع العرب المدبـّر.
(1) نشير ها هنا إلى نبش «الثوار» لضريح الصحابي الجليل حجر بن عدي.