فالمعارك بما فيها الكلاسيكية بين الجيوش على حدود دولتين لها مستجداتها في كل يوم، وعلى ضوئها تتبدل مهام سياسية وعسكرية، وتستجد استراتيجيات تتطلب أفكاراً، ورؤى في تقدير الموقف أولاً وفي صناعة قرار مساعد على خوض الحرب، أو تحويل مسالكها، أو تدعيم جبهاتها، أو إنهاء غاياتها ووقفها.ووفق هذا المتطلب الدائم من شؤون المعارك وخاصة المركّبة منها كما يحدث في سورية. ووفق متلازماتها، وتداعياتها، ينصبُّ النظر السياسي، وكذلك العسكري على القضايا الاستراتيجية لكسب هذه الحرب بعد أن تكون قضايا التكتيك الحربي قد مهّدتْ الطريق إلى مقتضيات الاستراتيجي.
وهذه المقتضيات المعنية تُستبط من سير المعارك، أو من دخول جبهات جديدة في الحالتين أي: لنا، أو علينا وتطبيقات ذلك تستدعي أن يكون لدى الطرف المعتدى عليه أوراق داخلة في توجيه اللعبة، وتدير سيرورة الميدان إدارة ذكية، ومحققة للأهداف، وأوراق تدخل تحت ما يسمى التعزيز الاستراتيجي، أو التعويض الاستراتيجي في حالة فتح جبهة جديدة.
وقائد العمليات السياسية والحربية لايمكن أن تخلو يده من ورقة جديدة يضعها في الزمن المناسب، والاحتياج المتناسب. وهكذا يحدث في سورية منذ أن بدأت فكرة التأمين اللازم لمستقبل إسرائيل على ضوء اهتراء النظام العربي المسيطر عليه من قبل أميركا والصهيونية، ولكيلا تُترك جماهير الشعب العربي تتولى إنهاء النظم العربية بأهداف التحرر العربي للأوطان، وللإنسان ركبت أميركا وإسرائيل قارب الإبحار إلى شواطئ هذه الأهداف لتُمسك بعصا التوجيه وتزوّر غاياتها، ولو كان ظاهراً أنها قامت بإنهاء عملائها في النظام الرسمي العربي، فهي أنهت فرداً لتستبدله بحركة، وسياسات تضمن فيها إدامة السيطرة الإسرائيلية، وتفكيك الدول العربية، وتدمير أطر المقاومة فيها تدميراً كاملاً فتكون قد حقّقت انتصارات مزدوجة أي: تقوية وجودها الاستعماري وتفكيك دول المقاومة ومنظومتها، وإلحاقها بآخر قاطرات الموكب الصهيو أميركي. ومن الغريب في أيّ محاكمة عقلية لفصل الربيع الذي صدّروه إلى بلداننا بأن زهر الدم، وحقول الدمار، ورايات الحروب الطائفية هي المحمولة على كتف هذا الربيع.
والذين تحدثوا عن الحرية معه صاروا يبحثون عنها فلم يجدوها في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وما زالوا يبحثون في سورية عن تجليات هذه الحرية فلم يجدوا منها سوى حرية العدوان الإسرائيلي على مراكز البحث العلمي في بلدنا، وحرية قتل العلماء، وحرية شطب الخارطة الوطنية للسوريين، وإدخالهم في حالة من الشتات، والتهجير حتى يتحولوا إلى عبيد ويتم قذفهم إلى مخيمات الذل، واستلاب الكرامة، ومَحْرَقة قتلِ العنفوان السوري الذي دَحَر روما وبيزنطة والأستانة العثمانية، والامبريالية الأوروبية، وكان على وشك أن يدحر الغزوة الأمروصهيونية قبل هذا الربيع القادم باليباس.وفارق الاحتمال بين ما حدث في بلدان الربيع التدميري، وبين سورية هو أن هنالك نُظماً سياسية لم يكن لها السند الشعبي المطلوب، ولم يكن لها في جيشها نصير بفعل خصوصيات معلومة، فصار فيها ما صار من إزاحات خطيرة لقوى التقدم، والعروبة، وتوظيف بديل لقوى الرجعية، والتحالف مع إسرائيل وأميركا. ومن أصعب ما سيسجله تاريخ العرب في هذا المقطع المهجّن من التاريخ هو أن العرب بحجة نظم الاستبداد السياسي بالشعب قد باعوا الشعب والأرض والأوطان رخيصة لمن مكّنوه من استعمارهم، وجعلوا إسرائيل المحتلة لأرضهم، والمستهدفة وجودَهم ومصيرهم ومستقبلهم صاحبة القرار عليهم. وما يقتضي اليوم أن يعاد النظر فيه هو مشاعر الفرح التي صارت ترافق العدوان الإسرائيلي على بلد عربي، بعد أن كان العدوان يستفزّ الوجدان عند كل عربي ويُفوّر منابع الرجولة فيه.
والسؤال هنا هل هذه هي مشاعر العبيد الذين ليس لهم سوى التأييد؟! إن مقتضيات الإستراتيجيات في المرحلة السورية الراهنة -ولم نَعُدْ نريد القول في المرحلة العربية- أن تطرح سورية المعادل العربي لكن فيها، بداخلها الوطني، بجماهيرها النبيلة، بشعبها الأبي، ولا بد من القدوة كلما عزّت سُبُل الانتصار. والمعادل الذي أقصدُه هو مشروع التفاف الأطياف الوطنية بكل تنوعاتها (السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والروحية) حول مبادئ جامعة، وقواسم مشتركة تحترم خصوصية كل طرف وهويته، ودوره، وموقعه في الحياة الوطنية، وتجعل الوطنية الواحدة، والموحِّدة هي الراية الجديدة للسوريين وهم يخوضون معركة مركّبة ضد التحالف الأمروأوروصهيوعربي عليهم. وربما يُعلن هذا المشروع الوطني عند فتح المجال السياسي للعمل التيّاري السوري وإعادة إنتاج التحالف الجبهوي بتحالف وطني أوسع، وإعادة إنتاج الصيغة التي تمّ فيها تنظيم الشعب، وتخليصها من الملامح الحكومية حتى تأخذ مقومات المجتمع المدني، وإعادة إنتاج النظام الاقتصادي بتوافق الأطياف السورية المتعاضدة لاختيار نظام اقتصادي يؤمّنُ التوزيع العادل للثروة الوطنية ويحمي نسبة الطبقة الوسطى كحامل تاريخي لكل مشروع وطني. وإعادة إنتاج الثقافة السورية باستراتيجيات جديدة للإبداع وحريات المثقف، وإعادة إنتاج منظومة الإعلام السورية وتفويضها بالسلطة الرقابيّة، والتوجيهية حتى تكون الضابطة القوية ضد مظاهر الفساد، والمحرّض الوطني للنموذج الذي يُقتدى. وإعادة إنتاج القضاء السوري وتمكينه من فرض صيغة الدولة القانونية، وجعله الضامن الأهم لكل حراك وطني، تقدمي، تحرري، حضاري. نعم إن الرد على عدوانات إسرائيل ليس فقط بطلقة ناريّة مقابل طلقة، بل بمشروع وطني يجعل إسرائيل تشعر بالخسارة الإستراتيجية، ومن الواضح أن إسرائيل لا يهمها من المحيط العربي سوى تدمير سورية دولة، وشعباً، وخارطة، وتفكيكها كانتونات متقاتلة، وإذا كان استهداف إسرائيل لنا، ولبلدنا مكشوفاً فمن الطبيعي أن يكون ردّنا مشروعاً وطنياً يدحرها، ويُبْقِينا.