حتى أصبح مضرب المثل, وهنا يتضح لنا الدور الذي يمكن أن يلعبه الكتاب في حياة الشعوب, ويمكن القول إن هذا ما فعله الكاتب المصري القبطي (ابن مماتى) عندما كتب سيرة حياته -كما يريد بالطبع- وأورد حكايات وأخباراً أكاد أقول إن معظمها ملفق وغير صحيح, فلم يكن قره قوش غبياً ولا كان أحمق, وإلا لما اختاره القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي للأعمال الكبيرة, ولما افتداه يوم كان قره قوش بين المحاصرين في (عكا) أيام الحروب الصليبية, ونحن اليوم نفتح ملف هذا الرجل.
ثمة في المأثور الشعبي شخصية تشبه من حيث ذيوعها شخصية جحا, وإن تكن أقل شهرة وأكثر اختلافا, هي شخصية قره قوش, وإنما يختلف هذا الرجل عن جحا, في أنه ظهر في زمان محدد هو الحقبة الأيوبية, في القرن الهجري السادس, الميلادي الثاني عشر, بينما اختلف في تحديد الزمان الذي ظهر فيه جحا كما تقدم.
ولم يتداول المأثور الشعبي قره قوش إلا في اتجاه محدد, هو حماقة الحاكم وظلمه وقسوته, في حين أن اتجاهات الفكاهه والنادرة عن جحا, كانت كثيرة, كما سبق أن أوضحنا.
وقد لا نعدم أن نجد باحثاً ينكر تماماً وجود رجل حقيقي في عصر ما يدعى جحا, وقد يذهب إلى أنه من ابتكار المخيلة الشعبية, أما قره قوش فإن أحداً لا ينكر وجوده, ذاك أنه رافق عدة رجال من قادة الدولة الأيوبية, ولنبدأ قصته من أولها.
قره قوش في بلاد الشام
نشأ قره قوش خصياً مجهول الأصل في إحدى قرى آسيا الصغرى, أي تركيا, وكان في الآن ذاته مملوكاً لرجل من أهل تلك القرية, ثم حدثته نفسه ذات يوم أن يهرب من مالكه, فأخذ ينتقل من بلد إلى بلد, حتى وصل إلى بلاد الشام (1), وفيها الملك العظيم عماد الدين زنكي, وهو الذي كان في خدمته قائدان كبيران أيوبيان هما: أسد الدين شيركو ونجم الدين أيوب.
وأسد الدين شيركو هو الذي شارك في إزالة الدولة الفاطمية ومهد لقيام الدولة الأيوبية ونجم الدين أيوب, وهو والد صلاح الدين الأيوبي الذي قامت الدولة الأيوبية على يديه وكانت له بطولاته في الحروب الصليبية, ولاسيما معركة حطين.
الفتى الرومي قره قوش.. وشيركو
ولقد استطاع قره قوش, ذلك الفتى الرومي الذي دخل دمشق أن يتوصل بذكائه إلى معرفة القائد العظيم أسد الدين شيركو, فقدره القائد حق قدره, وتوسم فيه النجابة والشجاعة, فقربه من نفسه, وقيل اشتراه بماله الخاص, وطفق يدربه على أعمال الفروسية, وينمي فيه المواهب الحربية, وكان كثير من الجنود المقاتلين في تلك الأيام, على شاكلة هذا المملوك, بل إن أمرهم استفحل في بعض العهود فتمكنوا من إنشاء دولة عاشت سنين طويلة هي دولة المماليك.
بهاء الدين الأسدي
.. وفي دمشق أطلق قره قوش على نفسه اسم بهاء الدين بن عبد الله الأسدي, أما قره قوش فلفظ تركي من كلمتين: قره - بمعنى: أسود, وقوش - بمعنى: طائر أو نسر, وأما تسميته: عبد الله, فكتابه عن أنه لم يعرف له أب مسلم, وأما وصفه بالأسدي نسبة إلى القائد أسد الدين الذي قام على تهذيبه وتعليمه واعتناقه الإسلام.
وما لبث قره قوش أن ارتقى في سلم الجيش الذي يقوده أسد الدين حتى وصل إلى مرتبة الإمارة, وعندما دخل أسد الدين شيركو مصر, دخلها معه, وساهم أيضاً في إنهاء الدولة الفاطمية, وكان دعامة قوية من الدعامات التي قامت عليها الدولة الأيوبية (2).
قره قوش يحرس القصر الفاطمي
.. في هذه الفترة الدقيقة, عين قره قوش حارساً للقصر الفاطمي وذخائره وكنوزه, فكان من أعماله أن عزل بين الرجال والنساء لئلاً يتوالدوا, وأقنع السلطان صلاح الدين ببيع مكتبة القصر, وكانت مكتبة نفيسة, لأن كتباً فاسدة الرأي, تدعو بدعاوة الفاطميين, وكان هذا غير صحيح, ولم يكن قره قوش ذا خبرة بالكتب أو العلم أو الأدب (3) غير أنه باع كنوز القصر ونفائسه بأثمان جيدة.
ثم إن السلطان صلاح الدين أمر قره قوش بأن يبني بعض القلاع حول القاهرة, وكان قد اطلع في أثناء الحروب الصليبية على القلاع والحصون التي بناها الفرنجة في بلاد الشام.
الهوامش
(1) الفاشوش في حكم قره قوش- لابن مماتى - منشورات المكتبة الحديثة - بيروت - شارع سورية - لم يذكر تاريخ النشر - ص 30.
(2) المصدر السابق - ص 30-31
(3) المصدر السابق - ص 34-35