على ما يبدو أن الغضب الذي أتقن دائما هنريك إبسن تفجيره في نصه المسرحي, كان بذات الوقت يحسن إسقاطه على شخصياته.
فكأننا ببطل مسرحيته (عدو الشعب), المقدمة مؤخرا ضمن فعاليات احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 م في دار الأوبرا, كأننا ببطله الدكتور(استوكمان) يتخذ موقفا مماثلا لمقولة مبدعه السابقة.. إنه يتقاسم الغضب وشخصياته. لكن ممن كان هذا الغضب.. وما مصدره?..
عرف منشىء الاتجاه الواقعي الملقب بأبي المسرح الحديث هنريك إبسن بميله لفضح مفاسد المجتمع, ومناقشة أهم قضاياه الناشئة الخطيرة في ذلك الزمن ولهذا تطبع غالبية أعماله بالتمرد على الظلم الاجتماعي والعادات البالية.
وعلى الرغم من أن الحكاية في (عدو الشعب) حدثت (فيما مضى) و(هناك) .. إلا أنها تملك قوة التعبير عما يحدث(الآن وهنا).. وهو مكمن قوة وجاذب العرض معا. إنه السر في امتلاك هذا الفن المدهش (المسرح) للمضمون الإنساني الصالح لكل زمان ومكان.
فحكاية (عدو الشعب) هي حكاية من يمتلكون معرفة ونظرا قويا يمكنهم من الوصول للحقيقة ولو جزئيا.
ولكن .. هل يجدي امتلاك أو معرفة الحقيقة في زمن هواة قتل تلك الحقيقة.. هواة اقتناص مصالحهم وفقط, حتى لو كان ذلك على حساب النيل من حيوات الآخرين..
إذ يدرك الدكتور (استوكمان) الخطر الناجم عن سوء تمديدات المنتجعات الصحية وتلوث مياهها, وما سيؤدي إليه الأمر من وقوع لضحايا جراء التلوث الحاصل . وهكذا تحاك مؤامرة ضد الدكتور من قبل من ستتضرر منافعهم من إغلاق تلك المنتجعات. وعليه سيتم قلب الحقائق وتزويرها, ليجعل أولئك المتنفذون ممن ينطق بالحقيقة عدوا للشعب, بينما هم في حقيقة الأمر الأعداء الفعليون.
هناك ضدية واضحة تسعى الرؤية الإخراجية لإظهارها من خلال تباين المواقف الإنسانية, إظهار ذلك الفارق الأخلاقي بين من يسعى للدفاع عن المصالح العامة, وبين من يدعي حماية تلك المصالح وهو في باطن الأمر يقوم بإفسادها وتعطيلها خدمة لمصالحه الخاصة.
ضدية أتقن المخرج عبد اللطيف التقاطها في عرضه, عبر تقديم نموذجين متناقضين , الدكتور وأخيه العمدة(ياسر عبد اللطيف وتيسير إدريس)... كل منهما يعبر عن وجهة نظر تناقض الأخرى. حيث يجسدان ذلك بأداء لافت . يتباين أسلوبيا. لنلحظ أداء هادئا يقابله آخر يتفجر طاقة هي ذاتها طاقة الغضب التي امتلكها الدكتور.. تصل الى ذروتها في لحظة إعلانه وفضحه لحقيقة تلوث المياه.. هناك لقطة إخراجية مميزة تعتمد إظهار ذاك التباين أداء حتى من خلال موقع ومكان الممثل أثناء أدائه تكريسا لتناقض النموذجين السابقين..
ففي الوقت الذي يعتلي فيه العمدة المنبر ليلقي كلمته, نرى الدكتور يتحدث من أمام المنبر.. إنه لا يقف وراءه ,ولا يعتليه. وكأنها إيماءة الى أنه من هذا الشعب, يخاطبه وهو منتم إليه, على العكس من أخيه.
وتأتي اللقطة السينوغرافية مكملة للإخراجية ,فمكان المنبر جعل على جزء من الخشبة يتقدم الخشبة الأساسية.. إنه أقرب الى الجمهور.. أقرب الى الشعب -بالمعنى الظاهري فقط- بمعنى أنه جزء من حياتهم, اعتلاء المنابر وإلقاء الخطب بالناس جزء من عمل أولئك المتنفذين الذين لا يراعون سوى مكاسبهم...
صحيح .. أن ثمة أكثر من مئة عام تفصلنا عن مسرحية (عدو الشعب) إلا أن ذاك العدو لم يزل الى الآن حيا , إنه كالداء المستشري الذي يصعب الفكاك منه.
وإن يكن إبسن في مسرحيته أطلق سؤالا(هل نملك القوة والإرادة لنتحمل ألم المعرفة ونستحق تذوق لذتها)
إلا أن ياسر عبد اللطيف لم يحاول البحث عن (عدو الشعب) إلا بمقدار ما حاول إدراك ذاك الجوهر والمعنى من التعب المسرحي.