و هو يستعيد المرحلة الذهبية في الفن التشكيلي السوري الذي كان صاعداً في سنوات الستينات و السبعينات , حيث برزت و توضحت الاتجاهات و التيارات التشكيلية الحديثة عبر اعمال مجموعة من كبار فنانينا و هم : نصير شورى و ادهم اسماعيل وفاتح المدرس و محمود حماد و مروان قصاب باشي و نعيم اسماعيل و أحمد دراق السباعي ولؤي كيالي و خزيمة علواني و نذير نبعة و غسان السباعي و نشأت الزعبي و الياس الزيات و عبد القادر ارناؤوط و اسعد عرابي و ليلى نصير و خالد المز وغيرهم.
و من هذا المنطلق يمكن اعتبار هذا المعرض من اهم المعارض التشكيلية التي تشاهدها دمشق , و هو يستحق اكثر من زيارة واحدة , و ذلك لاحتوائه على مجموعة لوحات شهيرة سبق و شاهدنا صور بعضها , و منذ سنوات طويلة , في العديد من الكتب و المطبوعات و الدوريات و المجلات و الصحف , و هذه الاعمال تم اختيارها من مجموعة مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة .
فالمعرض يعطي المشاهد فكرة واضحة عن المرحلة الانتقالية الاولى او المرحلة الذهبية التي اخذت تبلور اساليب الرسم بلمسات لونية تلقائية و عفوية .
و المهم في خطوة هذا المعرض انها فتحت باب النقاش و المشاهدة لاعمال ابرز الفنانين المحدثين الرواد من الراحلين و المخضرمين القادمين منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي من المحترفات المصرية و الاكاديميات الايطالية والباريسية و غيرها , وبذلك فالمعرض يعيد تصحيح الصورة المهزوزة و الخلل المزمن الذي طالما تحدثنا عنه في مقالات سابقة , و هذا دليل واضح على ان الجهات المعنية تتقبل النقد الموضوعي وتعيد النظر في خطوات تنظيم و اقامة المعارض الجماعية للوصول إلى الصورة النموذجية او المثالية التي تعطي المشاهد صورة بانورامية واضحة عن الاسماء الحقيقية التي منحت الحياة التشكيلية في مطلع الستينات دفعة تصاعدية سرعان ما تركت تأثيراتها المباشرة على الاجيال الفنية المتعاقبة ,على الاقل في تشجيع خطوات الانفلات من اطار الرسم التقليدي و من قيود المنظور الكلاسيكي و التسجيلي المقروء في تجارب الرواد الاوائل الذين برزوا في النصف الاول من القرن الماضي .
و على سبيل المثال لوحات نصير شورى المعروضة هنا تشكل المدخل الحقيقي لاستيعاب تطور لمسته اللونية الانطباعية و التي ادت فيما بعد لوصوله الى التجريد و من ثم العودة الى صياغة اشكال الطبيعة و العناصر الاخرى عبر رؤى جديدة خاصة و حديثة و منحازة نحو شاعرية التكوين من خلال زخارفها المنمنمة المغزولة بخطوط بيضاء دقيقة و الجانحة نحو التسطيح و الشفافية .
وفي هذا المعرض نكتشف عالم أدهم أسماعيل ورحلته الفعلية على طريق بناء مناخه الخاص , معتمداً الرسم المختزل الذي يبلغ التجريد من دون ان يتخلى عن الشكل المستمد من الواقع , ملتزماً الالوان المسطحة و الصافية و المحددة بحركة خطية متواصلة دون انقطاع و هذه الصياغة التشكيلية المتطورة التي جسد من خلالها العناصر و الاشكال فرضتها بقوة ثقافته البصرية و حساسيته الروحية , حيث شكلت تجربته و منذ البداية تحولاً بارزاً في مسار التجارب التشكيلية التي كانت سائدة عندنا .
و نجد حضوراً قوياً لعالم فاتح المدرس الذي ارتبط منذ بداياته بهاجس تشكيلي طفولي و تطلع حيوي نحو اشعاعات اللون المحلي القادم من طبيعة و سهول و قرى الشمال السوري , التي شهدت ولادته و فتوته , فهو و كما تؤكد لوحاته المعروضة , كان من اكثر فناني مرحلة الستينات جرأة و مغامرة , و بذلك كان سباقاً في اعتماد اللمسات اللونية الاكثر عفوية في تلك المرحلة و التي شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التقليدية , و تركت تأثيرات و الى اليوم على عدد كبير من الفنانين .
محمود حماد ايضاً حرك بعض الاحلام و شكلت لوحاته الحروفية التجريدية الارضية الصلبة التي ارتكزت عليها التجارب التجريدية المحلية التي جاءت من بعده . حيث كان يشكل حركة الحروف العربية على اللوحة بطريقة انفعالية متحررة تجعله يحتفظ بسر الاغراء او بجاذبية تأملات الحركات الحروفية المتداخلة مع معطيات الفنون التجريدية الاوروبية الحديثة .
و نستعيد حيوية عودة نعيم اسماعيل الى اشكال الزخارف العربية , و بذلك ابرز حيوية الزخرفة و مرونتها و قدرتها على ترويض و توليف العناصر الواقعية المختلفة ولقد تميزت اعماله بشاعرية المشهد الريفي القادم من ايحاءات الاحساس المتواصل بالبنى الزخرفية العربية , التي بقيت مطبوعة في مخيلته و ظاهرة في لوحاته حتى لحظة وفاته .
و لم تكن تنويعات لوحات لؤي كيالي المعروضة إلا محاولة لاحتواء العذاب و القلق و الاضطراب الانساني , حيث تدخلنا لوحاته في جوهر المعاناة الانسانية . علاوة على موضوع الطفولة و مشاعر الأمومة . فالرسم كان هاجسه الوحيد وصديق عذابه و ازماته الداخلية , كأنه كان يريد الاحتفاظ برغبة الانزواء و الانطواء , مع انه تعامل مع موضوعات الزهور و كأنها عناصر مناقضة لحالات البؤس و العذاب و التشرد .
كأنه كان يبحث عن فسحة تفاؤلية تنشله من المعاناة والقلق والاضطراب وصولاً الى المأساة الكاملة المجسدة في لوحته المعروضة ( ما سح الاحذية ) .
ومع هذا المعرض نعيد قراءة عوالم نذير نبعة و تنقله في مجال صياغة اللوحة من اقصى درجات الدقة و النمنمة التفصيلية , الى اقصى حالات العفوية و التلقائية , و مع ذلك فهو يصل الى مناخية خاصة تحمل تداعيات عراقة النكهة المحلية , في حركة الرموز و الدلالات التراثية و الاشارات اللونية القادمة من تأملاته لبعض المناطق الجبلية المحيطة بمدينة اللاذقية .
وتطرح لوحات غسان السباعي في اجوائها التشكيلية و تنويعاتها التعبيرية و الرمزية اكثر من قضية انسانية مرتبطة بقلق حياتنا الراهنة , حيث تبدو اشكاله الانسانية و الحيوانية و كانها معلبة , و هي تعبر في بعض اوجهها عن جمالية العودة الى الهندسة المعمارية المتينة . فهو يستخدم الكتل اللونية الضاغطة على الاشكال والمكعبات و التكاوين المتجاورة و المتداخلة و التي تتولد من حركة الدوائر و انصاف الدوائر و الخطوط المستقيمة و التكوينات الحادة واللمسات اللونية العفوية المرتبطة بجماليات اللوحة الحديثة و المعاصرة .
و نجد في هذا المعرض حضوراً لتجارب اخرى , تحتاج الى قراءات نقدية موضوعية , لانها ساهمت باعطاء دفعة تصاعدية لحركتنا الفنية طوال المرحلة الانتقالية ما بين التقليد و التجديد.