حرم الرقاد فيها على الأشفار
في دمشق ولد الشاعر خير الدين الزركلي..
وفي مرابعها تربى وقضى أجمل أيام شبابه وصباه في ملاعبها..وفيها ازدهرت أحلامه الخصبة وفي غوطتها عاش أيام الحب والهوى.. ورغم إبعاد المستعمر الفرنسي له كان دائماً يرى أن العودة دانية جداً في الغد القريب، وستكون عودة ظافرة مع خيول النصر تشهدها الأجيال وهي تسمع خطواته حين يدخل البلاد.
عندما دخل الفرنسيون دمشق وأطاحوا بحكومة فيصل قضوا على أماني سورية بالاستقلال بعد أن استشهد الكثير من شبابها في معركة ميسلون، الزركلي تحدث عن فاجعة ميسلون التي حدثت في بلد كأنما كتب عليه أن يكون هدفاً للنوائب ومرمى لنصالها.. ورأى أن مياه بردى غاضت لهولها وزلزلت ربوع الفيحاء ومادت صخور قاسيون يقول:
الله للحدثان كيف تكيد
بردى تفيض وقاسيون يميد
بلد تبوأه الشقاء فكلما قدُم
استقام له به تجديد
كما يرى أنه من الصعب أن يفهم المعتدي لغة الحق والمنطق إذا لم يدعمها السيف والمدفع:
غلت المراجل واستشاطت أمة
عربية غضباً وثار رقود
ويصور الشاعر أنه في ذلك اليوم الِعصيب تنادت الجموع في سورية إلى الجهاد ذوداً عن الوطن المهدد وهبوا في وجه الغزاة الطامعين بغضبة عارمة:
زحفت تذود عن الديار وما لها
من قوة فعجبت كيف تزول
واندفعت أفواج المقاومة وليس لها سوى عزيمتها وإيمانها وراحت ساحة المعركة تضج بجلبة جيش العدو حيث أسراب الطائرات تئز من فوق الرؤوس:
الطائرات محومات حولها
والزاحفات صراعهن شديد
وكانت رائحة الموت والدمار في كل مكان، حيث المصفحات والمدرعات تندفع أرتالاً نحو المقاتلين البواسل ويبين الزركلي أن المستعمر الذي دخل بحجة تخليص الشعب وتحريره كشر عن أنيابه فإذا وعوده أكاذيب وعهوده قيود:
خدعوك يا أم الحضارة فارتمت
تجني عليك فيالق وجنود
بعد معركة ميسلون تم إعلان الانتداب الفرنسي فغادر الزركلي إلى عمان وبعد مغادرته قرر المجلس العسكري التابع للجيش الفرنسي الحكم عليه غيابياً في الإعدام مع مصادرة أملاكه لأنه جاهر بالعداء للفرنسيين ونعتهم بالخيانة، ودعا أهل وطنه إلى مقاومتهم، ورغم إبعاده وبعده عن دمشق لم ينسَها لحظة فكان يحملها في قلبه ولسانه نشيداً يغنيه ويتغنى بأفراح سورية خاصة والشام عامة، ويبكي أحزانها وهو الوطني المشهود له بمواقفه، فقد كان كما وصف صوت الشام المدوي، والناطق بلسانها والمعبر عن خلجاتها ومشاعرها وها هو من على البعد وأثناء وجوده في مصر 1926 في حفلة أقيمت لإغاثة المنكوبين والتي تبرع فيها كرام العرب بمصر لإخوانهم في الشام وفيها أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
وأنشد الزركلي قصيدته الرائية وفيها وصف النكبة التي تعرضت لها دمشق بعد الثورة السورية التي بدأت عام1925 رداً على سياسة المستعمر في البلاد، وكانت دمشق وغوطتها من مراكز هذه الثورة، ونال أهلها من وحشية تدمير الأحياء وتشريد السكان ما نال، ما أثار سخط العالم كله إذ تعرضت بعض الأحياء لقصف مدفعي استمر ثلاثة أيام فاشتعلت النيران وامتدت إلى المتاجر والبيوت المجاورة في محلة سيدي عامود، وتساقطت القنابل في مناطق مختلفة فمات النساء والأطفال تحت الركام، وقد سمع بهذه الكارثة خير الدين الزركلي فشارك إخوانه السوريين مصابهم ووصف الفاجعة مفتتحاً بقوله:
الأهل أهلي والديار دياري
وشعار وادي النيربين شعاري
ما كان من ألم بجلق نازل
واري الزناد فزنده بي واري
دمعي لما منيت به جارٍ هنا
ودمي هناك على ثراها جاري
النار محدقة بجلق بعدما
تركت حماة على شفير هار
صبرت دمشق على النكال
ليالياً حرم الرقاد بها على الأشفار
هكذا كانت دمشق وستبقى «ما من غازٍ أو فاتح مر فيها إلا وخرج ولم يبق فيها فاتح وبقيت هي».