والقابض على الحقيقة كالقابض على الجمر,أو أنه يعطي الظرف المناسب لكي يتم إلقاء القبض عليك وعندها تصبح مخيرا بين الجمود والمغامرة,والأصل في الموضوع أن الحال الراهن للواقع العربي لا يمكن البحث فيه بعيدا عن عوامل تكوينه وعن القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة فيه,ولقد اعتاد الكثيرون من أصحاب الرأي والقلم أن يأخذوا نصف الحقيقة بحيث يضعون توصيفا للواقع وتحديدا منهجيا لاتجاهاته ومساراته ولكنهم على الغالب يتجاوزون بقصد أو بغير قصد البحث الموثق في العوامل المسببة والقوى صاحبة الشأن في الواقع العربي السلبي عموما, وعلى الغالب يقفل محضر الجلسة وتسجل الأخطاء والجرائم ضد مجهول,ثم يحدث قطع قسري على السياق ومثل ما لا يرتبط الواقع السياسي العربي بالقوى المسؤولة عنه كما يرد من خلال الكتابات الكثيرة كذلك توقف سلسلة الاستقراءات والاستنتاجات الممتدة الى المستقبل القريب والبعيد والممتدة الى مجمل الجغرافيا العربية بصورة متواترة.
وهكذا تتحقق في الكتابات السياسية ثلث فكرة لاهي بالفكرة التامة ولاهي بنصف الفكرة المؤسس فيكون هذا الثلث مرتبطا بتوصيف الواقع وتحديد مداراته وإطلاق المعايير الأدبية والمعنوية عليه في حين يحدث تجاهل للجزأين الآخرين,أعني للقوى والعوامل المسؤولة عن تردي الواقع والامتدادات وتأثيرات الحال الراهن في المستقبل العربي عموما.
ولهذا المعنى فإن الأفكار المطروحة تأخذ فرصتها بالتصريح ثم بالاستنفاذ,والقوى السياسية المسؤولة تأخذ راحتها في النظرة الى الفكر السياسي ومادته المكتوبة على أنهما مجرد نشاط يمكن له أن يحدد ولكنه لا يمتلك إمكانية التقويم الساخن والعميق ولا يجد طريقه نحو التأثير والتغيير.
إن ثمة حقيقة هنا تلازم الموضوع وتؤطر له تتمثل في أننا عندما نتحدث عن الواقع العربي فإنما نتحدث عن حالة عامة وعلى المجاز حيث لم تتوفر الإمكانية حتى الآن لتناول الواقع العربي عبر مقومات وحدة الموضوع ووحدة المتحقق ووحدة الاحتمالات,وبصورة مباشرة نحن أمام وقائع متراكمة ومتراكبة ينقطع أحدها عندا لدخول في الآخر ويلغي الأسود فيها الأبيض, ويجمد فيها الساكن المتحرك وبالتالي تتشكل لدينا صورة عامة عن الواقع العربي بمفهوم الوصف الكلي (الفشتالت) وهذه النظرة تنتج موقفا معنويا أقرب ما يكون للرومانسية وأبعد ما يكون عن الموضوعية والواقعية,إن آلية التعامل مع الواقع العربي على أنه أجزاء متناثرة ووحدات متناقضة في مجمل تطبيقاته وأنشطته السياسية سوف يتيح لنا القدر الكافي من المساحة النفسية والأدبية لكي نكتشف ثلاثة جوانب هامة:
- علاقة الخاص بالعام ومدى صلاحية العام لاستيعاب الخاص.
- المدى الفعلي لوجود المشترك والناظم والقادر على إنجاز صورة في ذهن الإنسان العربي.
- مدى صلاحية النقد والتقويم في تغيير الواقع وليس الوقوف عند إدانته فحسب.
وفي الأحوال كلها نحن أمام أزمتين متداخلتين,أزمة الواقع نفسه بالنظر إليه عبر سلبيته وحقائقه المرة وأزمة المنهج في بناء موقف من هذا الواقع المتردي,والذي يبدو أن كل أزمة تغذي الأخرى,إذ حينما ننأى عن المصداقية والجرأة في تحليل الواقع سوف نذهب بعيدا في اختيار مناهج هلامية تنتج كلاما وتعقد المنطق العام أمام أي فعل حقيقي على أرض الواقع.
وفي الاتجاه الآخر حينما نكتسب درجة إدانة الواقع السياسي العربي بكثير من الواقعية وتحدي الذات والعقبات والمخاطر عندها سيكون المنهج اللازم في التحديد والتحليل هو المعادل الطبيعي لمستوى التوصيف ومقدار المنطق في وصف الحال.
ومن الملاحظ ان الدارج الآن هو استبعاد هذا الخيار إلا بمقدار ما يستجيب لعمومية البحث وعمومية الموقف من الواقع نفسه, وهكذا تبقى المسألة هلامية تتكرر ولا تتطور تستولد أبعاداً سلبية جديدة ولا تحذف فقرات عقيمة في الواقع, حينما يضغط هذا المعنى على الوجدان وعلى القلب يتجه الفكر السياسي نحو الإشادة برفض الأزمة الراهنة شريطة أن لا توطن ولا توطد هذه الأزمة وبالتالي فإن الواقع السلبي هو خارج حدود كل قطر عربي على حدة, ويصبح المعني بذلك هم الآخرون دون تحديد الجهة أو الاسم أو الواقعة وتحاول هذه التجربة المرة أن تنجب عينات متمردة عبر كتابات عميقة ومن خلال منطق سليم وبالبناء على موقف واضح متكامل عندها تتحرك كل الوقائع في الحال العربي بآلية فعل ورد فعل وتسور هذه الظواهر ثم تحجزها وفي المآل تلقيها مع من أنتجها في المجهول أو في المعلوم القاسي.
لعل الأمر في جوانب كثيرة منه يتصل بنزعة( التطهر) المسيطرة منذ سنين طويلة على الفكر السياسي العربي, وهذه النزعة تفتح الأفق أمام الندب والبكائىات والعموميات وتنتج أفكارا بمستوى الشعر وأشعارا لها ملامح فكرية وتكون مثل موال مبحوح جريح يؤجج العاطفة حينما يلامس مواقع الألم ولكنه ينتهي مباشرة بأغنية إيقاعية يرددها الجميع.متوهمين أنهم حازوا الحسينين: رفض الواقع ومداراته ومداواته بالصرخة والألم,إن الخطر القائم في هذه النزعة يتمثل في القدرة على التكيف مع الواقع بدلا من التناقض معه وكأنما هنا تجرى نزعة مصالحة بين الإنسان العربي وواقعة مع احتفاظ الإنسان ببوحه الذاتي الخاص ومع احتفاظ الواقع بقدرته النهمة على إفراغ كل موقف من محتواه وشدته ومعناه ولعلنا هنا نستذكر بأن المسألة تتصل بواقع هو مصير لكتلة البشرية العربية وبالوضع الراهن لها ومن العبث أن نقصي هذا المجموع العربي ثم نلوذ بادعاء بالحديث عن تحسينات موضعية وإنجازات ذاتية وانتصارات لا تعد ولا تتوقف في هذا القطر أو ذاك وبواسطة هذا النظام السياسي أو ذاك,إننا هنا أمام إشكالية في غاية الخطورة وفي منحى تحديد هذه الإشكالية لا بد من الانطلاق من الموضوعية والواقعية ومنهج المقارنة والمقاربة ضمن الذات العربية ومع كل قوى العالم المتطورة,إن الإشكالية تؤكد الآن أن المفردات المطروحة على الواقع بصيغها والتعبير الإعلامي عنها تكاد تشكل فيضا من الانتصارات يزيد عن حاجة الواقع العربي,وهنا يتفجر الموقف الصعب إذ كيف نكون بمفرداتنا العربية القطرية منتصرين الى هذه الدرجة في حين يكون الناتج الإجمالي لهذه المفردات هو الهزيمة والتخلف والفقر والجهل والأمية والتنازل عن الحقوق .
ذلك هو الأمر الضاغط على العقل العربي وعلى العصب العربي وعلى الوجدان العربي في سياق واحد, وتتحول الإشكالية الى أزمة خانقة حينما نرى امتداداتها في الشارع العربي نفسه, إذ حينما تمارس الأنظمة السياسية دورا سلبيا وتتخلى الأحزاب والنخب السياسية والثقافية عن مهمتها في التحريض وفي إضاءة المكان والزمان والوقائع العربية,عندها سوف تتجه إحداثيات الواقع السلبي نحو المواطن العادي, تطلق عليه الجمود وتحاصره بالقيود وتقنعه باللجوء الى أحد خيارين إما خيار التسليم بالأمر الواقع والانتساب الى جوقة الدراويش القابلين والقانعين والراضين والادعاء بأن هذا هو قدره أو أن هذا هو المنسوب الممكن دون غيره في الواقع السياسي العربي الراهن أو أن يقع البعض في مطب التطرف الديني أو السياسي أو الاجتماعي وفي الخيارين معا يكون الإنسان العربي هو الخاسر والموقف العربي هو المتراجع والفاعلية العربية أمام التحديات والقوى الظالمة هي المتآكلة.
ويقتضي منهج الوقوف عند هذا الوصف العام أن نحدد القوى المسؤولة عن صياغة الواقع الراهن بما يلي:
النظام السياسي العربي وطبيعة البرنامج المحدد لهذا النظام والقواسم المشتركة هنا تكاد تندرج في الفقرات الأربع التالية:
1-الانحياز المطلق للقطرية بما تعنيه من تجزئة وبما تفرزه من قيم قائمة على المنطق الخاص وبما تؤول إليه كما هو الحال إلى اختلاف منظومات متكاملة من الفكر والثقافة ومن الأمن والاقتصاد ومن القوانين والتقاليد التي تكرس منظومات التجزئة وتحولها بصورة منتظمة الى خيارات سامية وشعارات حامية ونسيج من النخوة والاستنجاد بالماضي المجيد والعصر التليد,وإذا ما بقيت مساحة هامشية للحديث أو الالتزام بخيار قومي يكون ذلك من قبيل إضفاء سمة الأصالة والفروسية على هذا النظام أو ذاك.
2-حالة الطلاق البائن بين كل نظام على حدة وصيغة الأهداف الأساسية للأمة العربية بمنطق تكوينها التاريخي ووحدة مصالحها ومواجهة تحديات الناشئة عليها,إننا نرى الى هذه الحالة المرعبة وقد أدار النظام السياسي العربي للحق العربي ولموجبات بناء الكيان المعاصر والانتساب الى حي متحرك متسارع على الأقل,لقد غاب الهدف المشترك وصار العدو صديقا والتسليم بالأمر الواقع طريقا.
وصارت المقاومة فعلا منافيا للحشمة واستمرأت رموز النظام السياسي العربي تقليعة الرضى بما يجود به الآخرون على وجودنا وحقوقنا معا.
3-ترسخت في النظام السياسي العربي أن النظام هو هدف بحد ذاته وليس وسيلة لتحقيق الهدف,وبالتالي امتنعت أو على الأقل تضاءلت إلى حد الحصار إمكانية القياس لهذا النظام السياسي أو ذاك.
والمقياس هو الوضع القومي والعوامل المشتركة والتوصيف الجريء لمقدار الانهيار في الواقع,لا يمكن لأي نظام سياسي عربي بإصدار حكم عليه من خلال إدانة الواقع, من هنا كان الحل تلفيقيا,فتحولت الأهداف الى شعارات وتحولت الشعارات الى أشعار وصار من الممكن كما هو ملحوظ أن نرفض الواقع القائم ونتغنى بانتصارات القادة والزعماء والحكام العرب عبر أنظمتهم.
4-لقد جرت محاولات متعمدة لصياغة تناقضات غير أساسية داخل الحال العربي,قطر ضد آخر,موالاة ضد معارضة,حزب في مواجهة أحزاب وقوى سياسية أخرى,وثقافة تمجد الذات وتشجب الآخر,إن ذلك كله خلق مثابة ملفقة انجذب إليها الكثيرون ولا سيما من دعاة التنظيمات السياسية الفاعلية ومن نماذج كثيرة من النخب الفكرية والثقافية.
إن الفاصلة المهمة الأخرى التي تستدعيها حالة الوصف العام للواقع الراهن تجعلنا ننطلق من فكرة الحكم وضروراته بالتزامن مع فكرة الحكمة ومقتضياتها, ونعلم تماما أن الحكم عبر النظام السياسي العربي لم يعد قادرا على أن يتعاطى مع استراتيجيات وأهداف كبرى وأن يلبي لها الاحتياجات أو أن يخوض من أجلها معارك هي مصيرية ومشرفة في وقت واحد, ومثلما اختارت الأنظمة السياسية أن لا تدخل في هذا الخيار الصعب أدركت الجماهير أيضا أن هذا النظام السياسي العربي لم يعد صالحا للتعبير عنها أو للادعاء بأنه سوف ينجز جزءا ما من طموحاتها أو يدرأ خطرا قادما إليها, ولعل ذلك هو الذي يجعلنا نطرح فكرة( الحكمة) في مناخ تجويف الحكم, والحكمة هي اعتبار واعتذار وهي تبصر بالخطر الداهم وإدراك لهمجية الأبعاد المخططة في المشاريع الخارجية والتي لم تعد تميز بين حاكم وشعب ولا تفرق بين نظام صديق أو عدو ولا تكترث بفكرة اتجاه رجعي أو تقدمي في الوطن العربي.
والحكمة في إدخالها القسري أو الاختياري على آفاق الواقع العربي سوف يكون من شأنها أن تشكل آلية متوازنة ومتوازية تؤكد أن السفينة يجب إنقاذها كمادة أولى, وأنه إذا أخذ الجميع على يد المخربين والعابثين واللاهثين خلف الأجنبي والباصمين على الحلول نجونا ونجوا معنا وإذا ما أطلق لهم العنان لكي ينهاروا هنا أو هناك تحت وطأة شعار القطرية والحالة الوطنية والقرار المستقل وبتدليس واضح من تبعات ذلك المنطق السائد القائل بأنه لا يجوز التدخل في أمور الغير فإن ذلك كله سوف لن يستثنى جهة ما في الوطن العربي أو استسلاما ما في النظام السياسي العربي, إن المسألة في هذا الظرف الراهن وعبر المدارات الكبرى للصراع القائم في العالم لم تعد تعترف على منعزل منكفئ هنا وداعية مروج للحلول الاستعمارية هناك.
وما عاد في الحسبان أن تكون الاستثناءات والتوضعات الخاصة كالطائفية والمذهبية والعائلية والعشائرية يمكن لها أن تضمن موقعا آمنا بعد أن أدت خدمة جلى للمستعمر.
حينما يغيب الحكم لا بد من الحكمة وهذا موعدها تماما.