الى ما سبق ينتمي ديوان (قبل غزالة النوم) للشاعر مازن أكثم سليمان والذي يبشرنا بميلاد شاعر,نتوقع أن يترك بصمة في عالم قصيدة النثر السورية.
وإذا كان أدونيس يرى أن قصيدة النثر تركيب جدلي رحب وحوار لا نهائي بين هدم الأشكال الشعرية وبنائها,أو كما يقول د. محمد مندور إن السمة الظاهرة للشعر الجديد أنه يريد أن يتحلل من وحدة البيت كأساس لموسيقا القصيدة مكتفياً بوحدة التفعيلة,رافضاً بذلك ما سماه النثر المشعور أو الشعر المنثور الذي يخلو من موسيقا واضحة لأنه لا شعر بلا موسيقا.
فإن مازن سليمان ينزع الى تخطي ما سبق,وهو الى هذا- وبالتأكيد مع ثلة من الشباب المغامرين- يسعى لارساء انعتاق مطلق للصوت النثري الجديد من وطأة وآثام المعارك النقدية (الدونكيشوتية) التي أخرت تطور قصيدة النثر وساهمت في خلخلة المعمار الشعري لها,بل وأثرت في منطقية تلقيها وفهم مكوناتها وطرائق بنائها واجتراح موسيقاها الداخلية.
لقد وفر التأريخ النقدي والاستقرائي لقصيدة النثر المناخ الخصب والمؤاتي لتكريس قامات شعرية بعينها وكأن الابداع والاعجاز يبدأ وينتهي عند حدودها وأسوارها,ومد أشباه المبدعين بالنسغ الكافي ليتطاولوا على قداسة الكتابة النثرية.
وصار سخط كلماتهم وحشف قولهم نماذج مثلى لقصيدة النثر,كل ذلك على حساب أصوات آثرت الإنزواء والانطواء على ذاتها من أن تكون رقماً أو اسماً في (تسونامي) مجنونة تقود الابداع والشعر وذائقة التلقي الى هاوية من خراب وهلاك.
في (قبل غزالة النوم) يتخفف مازن سليمان وبوعي الشاعر المتمكن من عبء الفائض اللغوي,إذ يعمد في غالب قصائده الى الاقتضاب في القول,والاقتصاد في التراكيب اللغوية المعقدة والحد من الاستطرادات وجموح المفردات والمعاني والهروب ما أمكن من غواية الصور والتشكيلات التي عادة ما تكون مجترة, تربك القصيدة أكثر من أن تخدمها,بل يمكن أن تجعل الشاعر يدور في فلك الآخرين وتقليدهم ما يعني استنساخ صورهم واعادة انتاج تشكيلاتهم المجازية بشكل ربما مشوهاً.
وإذا كان مازن سليمان وبعض مجايليه ينزع الى التحرر والانعتاق من ركام الأجيال السالفة والتي اتفقنا أن بعضها أضر بقصيدة النثر أكثر مما أفادها,فإنه في هذا الديوان يبتكر لغة نثرية تمتح من معين خصيب مثقل حتى الانكسار بثمار الشعرية وجمالياتها التركيبية الناضجة,لغة تنعتق من محدودية المعجم الشعري وتتحرر من أعباء السائد والمألوف.
لا تنغلق موضوعات (قبل غزالة النوم) على براءة الطفولة وشقاوتها وذكرياتها أو أحلام فتى يعد الأيام وينتظر القادم المجهول,بل تنفتح على بعدها الانساني حتى لتغدو مرايا نرى فيها آلامنا ونفوسنا الهائمة المعذبة:
صخب أيقظني ليلاً / علقني بصنارة الصمت.. / وقرب السرير / فاجأتني ريح / تغزل أغانيها الحزينة / وتعجنها بأرقي المبهم / ثم تدعي / كلما سألتها / من أين جئت?! / أنها خرجت من قلبي..!!
على أن ما يلفت الانتباه في ديوان مازن سليمان اضافة الى تفرده في اجتراح لغة تحمل صوته وبصمته اعتناؤه بهذه اللغة من خلال ضبط المفردات بالشكل,ليس أواخرها وحسب بل ضبط كل حرف لتؤدي كل كلمة معناها بكليته,وهذا إن دل فهو يدل على احترام الشاعر لقارئه ولقصيدته بالقدر ذاته.
في زمن لايكاد يصدر كتاب - وربما لكتاب معروفين- دون أن يخلو من عشرات بل مئات الأخطاء اللغوية والمطبعية,فمتى يدرك البعض أن الخلل في اللغة ينتج خللاً في الفهم والتلقي, وأن الفعالية اللغوية هي الحامل لأي نص ابداعي وهي الحد الفاصل بين نجاحه وفشله.
والدلالة الأخرى أن مازن سليمان بخطواته الوئيدة المتزنة والهادئة يوفر لنصه البقاء والخلود,ويتيح له ثقافة تبدأ من قدسية(في البدء كانت الكلمة) ولا تنتهي عند استثمار الأساطير والحكايات الشعبية والموروث السردي المتماهي في وجدان وذاكرة كل منا.
(قبل غزالة النوم) نصوص وقصائد نثرية متمردة,مكنونة في قلب متوثب متحفز,تحفر طريقها الى قلوبنا وعقولنا كساقية مخاتلة,قصائد تمتد أصابعها لتكسر طوقها الأبدي وتبشر بميلاد جديد,كلمات وأحلام تنعتق من يقظتها وما أجمله من انعتاق.
***
الكتاب: (قبل غزالة النوم) - شعر
الكاتب: مازن أكثم سليمان
اصدار دار الفاضل دمشق -2006م -
عدد الصفحات .184