أحد أهم أقطاب النهضة الأوروبية, الذي امتلك طرازاً نادراً وصعباً من الحس النقدي الماكر والمتمكن وبفنية هائلة قدم أدباً كوميدياً تهكمياً كغطاء بارع الذكاء لما يريد قوله ونقده وهجائه, منطلقاً من الخرافات والخزعبلات التي ميزت القرون الوسطى- الظلامية- ومنها ابتدع شخصياته وأحدث الزلزلة على طريقته عبر دس (شيفرات) شيطانية الخبث بين السطور.
الكتابة عن الضحك أفضل منها عن الدموع لأن الضحك هو سمة الانسان (عيشوا فرحين) هكذا قال رابليه وبعد قراءته سنعرف أنه لم ينصحنا قائلاً (عيشوا فرحين ) عبثاً?
رغم شهرته إلا أن القارئ العربي لم يكن مطلعاً على أشهر عملين له (غرغانتو- بانتا غرتيل ) ومؤخراً صدر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة آفاق, ترجمة انطون حمصي, لنكون على موعد مثير ونتعرف على رابليه كهزلي (لعيب) ومازح مخيف, ومستهزئ, مرعب , مرح, صاخب, خشن, بذيء, ثرثار, حكيم, مغامر, طائش. هكذا حول الدعابة إلى قلم يعري الواقع ويفضحه, حذره جعله يغني أعماله بتوريات ذكية تجنباً للجنة الرقابة اللاهوتية, واتقاء لانتقام الكنيسة آنذاك?
لدى قراءتنا لبانتا غروثيل وغراغوانتو سنتذكر مواعظ لافونتين ودون كيخوته وجاليفر.. كذلك سنلاحظ اعتماده الشخصيات والأسماء الإغريقية كرموز على طريقة دانتي??!
أي سيحتاج القارئ إلى ثقافة لاتينية- هوميرية حتى يتسنى له الإحاطة الكاملة بما يقصده رابليه وكثير من المقاطع افتقرت إلى الحواشي التي كان يفترض بالمترجم- انطون حمصي - الاهتمام بشرحها مثال ذلك المقطع الذي يقوم فيه بانورج صديق بانتا غروتيل-بمدح سيدة باريسية حيث يقول لها :(إنك أنت التي كان على باريس أن يمنحها التفاحة الذهبية وليس لفينوس كلا ولا لجونا, ولا لمنيرفا لأنه لم يكن لجونا من الفخامة ولمنيرفا من الحذر ولفينوس من الأناقة مثل ما هو لديك ) في الترجمة غابت الشروح اللازمة لهذه الشخصيات كان يفترض أن يذكر للقارئ من هو باريس? وأن يكون معلوماً لديه أن باريس هو ابن الملك بريام ملك طروادة وهو الأمير الذي خطف هلينا زوجة مثيلاووس وتسبب ذلك بخراب طروادة, والتفاحة الذهبية كانت الفتيل الذي أشعل ومهد لتلك الحرب وفينوس هي ذاتها أفروديت آلهة الجمال وجونا هي ذاتها هيرا آلهة الزواج ومنيرفا هي ذاتها أثينا آلهة الحكمة ولولا أن باريس أعطى التفاحة لفينوس لما نشبت تلك الحرب.. غياب مثل هذه الشروح أفقد الشيء الكثير من نكهة ما يقوله ويقصده رابليه?!
إذا كان جاليفر قد عرفنا على عوالم الأقزام, فإن رابليه اختار العمالقة ليلعب لعبة المفارقة الفجة أحياناً!!
فنحن سنبدأ حكاية الدهشة والضحك المخيف أحياناً كثيرة مع ولادة العملاق بانتا غروئيل الجميل والكبير جداً والذي سبب موت والدته التي بكاها زوجها العملاق غرغانتو, الذي كانت قد حملت به أحد عشر شهراً وولد من الأذن اليسرى. هذا يذكرنا ببعض الولادات الشهيرة في العالم الأوليمبي مثل ولادة الآلهة أثينا من رأس والدها زوس كذلك ولادة باخوس- إله الخمر- من فخذ زوس - فكان غرغانتو حزيناً على زوجته (يبكي كبقرة, ويضحك فجأة كعجل) أما خوارق بانتاغروثيل الطفل ستذكرنا بخوارق هرقل من كل بد. فقد كان في كل وجبة يمتص لبن أربعة آلاف وستمئة بقرة ويقول:( طيب, طيب,طيب) وحين يعمد رابليه إلى إرسال عملاقه الصغير إلى مدارس بواتييه ولاحقاً إلى جامعة السوربون سندرك حجم جرأته في النقد وإسقاط الخيال على الواقع. وسرعان ما ندرك أننا أمام عمالقة خيالين يعيشون واقعاً حياتياً?
مغامرات بانتاغروثيل مؤلفة من أربعة وثلاثين فصلاً تحمل عناوين طويلة غريبة تشي بالمضمون مثل:(كيف غطى بانتا غروثيل بلسانه جيشاً كاملاً وحول ما رأى المؤلف داخل فمه, كبعض عشق بانورج سيدة راقية من باريس, كيف أصدر بانتاغروئىل حكماً على الخلاف بين النبيلين).
***
الكتاب: بانتا غروئيل
الكاتب: فرانسوا رابليه
ترجمة: انطون حمصي
صادر عن وزارة الثقافة - دمشق 2006